الاثنين، ١ سبتمبر ٢٠١٤

معنى الحياة


تعارف القدماء على أهمية العناصر المعرفية الثلاث: المبدأ و المصير و الطريق بينهما؛ لتحقيق السعادة المطلقة الفردية و الجماعية. فالإنسان العاقل - في نظرهم - يجب أن لا تفوته هذه العناصر المعرفية الثلاث، و يجب عليه بالتالي أن يبذل جهده في تحقيقها و التعرّف عليها حتى يصل إلى مرتبة اليقين بها، و لعلّه يمكن تلخيص هذه العناصر المعرفية الثلاث في عنصر واحد هو معرفة الله. و لعله يمكن أيضاً القول أنه رغم اختلاف مناهج العلماء في تاريخ الإسلام من الفلسفة و الكلام و العرفان إلا أن كلها لا تخرج من مظلة ضرورة معرفة الله لتحقيق السعادة المطلقة. معرفة الله بالتالي تصبح عند القدماء و حتى فئة من المعاصرين غاية الخلق و الوجود برمّته (أي معنى الحياة الإنسانية).
 
إن العبادة في الآية "و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون" كما يشرح أحد علماء الدين الشيعة هي غاية وسطيّة و ليست نهائية، فهناك آية أخرى تقول: "و اعبد ربك حتى يأتيك اليقين" أي أن اليقين بالله هو غاية العبادة، و آية ثالثة تقول: "كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم" أي أن من يمتلك علم اليقين المُشار إليه في الآية السابقة يستطيع أن يرى حقائق عالم الغيب حاضرة أمامه. هذا التفسير جذابٌ جدا، و بغض النظر عن تفاصيله إلا إنه يقدم وجهة نظر داعمة لما سبق من أنّ معرفة الله و الوصول إليه هو غاية الغايات، و يجب أن يكون هدف الإنسان الأسمى و الأعلى في الحياة.

 كل هذا رُبّما يكون مُتعارفٌ عليه وسط المسلمين، و لكن ما أودّ أن أُلفت الإنتباه إليه على وجه الخصوص هو أن الطريق الذي يُحدده القدماء و بعض المعاصرين بمختلف توجهاتهم للوصول إلى معرفة الله هو طريق ليس بالسهل على الإنسان المزدحم بهموم الحياة اليومية من وظيفة أقرب لأن تكون عبودية العصر و مسؤوليات العائلة المعاصرة و كل ما تتطلبه من وسائل استقرار. فمن أين لنا من الوقت و المزاج لقراءة كتب علم الكلام و الفلسفة و العرفان العتيقة منها و الجديدة للتحقيق و الطمأنينة العقلية و القلبية في معرفة الدين الصحيح و الإله الصحيح؟ كما أن العصر الذي نعيش فيه يفرض علينا مسؤوليات جديدة اذا ما سلكنا هذا الطريق. إذ يجب علينا اليوم أن نفهم ما هو رأي العلم في هذا المجال، و ماذا تقول العلوم الطبيعية المختلفة فيه و ماذا تقول فروع العلم و المعرفة الأخرى ذات الصلة. نعم، الناس تختلف في مداركها و طاقاتها الإستيعابية و للقارئ الكريم حرية الجواب عن موقعه المعرفي من القضية و عمّا إذا كان يرى مثل هذا التوجه واقعي و عملي!

 إن طريقة التفكير هذه عن معنى الحياة هي - كما يوضح المفكر الإيراني مصطفى ملكيان في كتابه "الشوق و الهجران" - طريقة تبحث عن هدف الحياة، الهدف الذي يجب أن يأتي من خارج الحياة، أي من الذي خلقها أو صنعها، و لكن هناك طريقة ثانية فيما يخص معنى الحياة، تأتي من الداخل، و هي أني "أنا الذي أعطي معنى لحياتي"!، و بتعبير آخر "أنا أعرف أني موجود، و لا يُهمّني من أوجدني، و ماذا كان هدفه من إيجادي، كل ما أريد أن أعرفه هو أنه ماذا عليّ أن أفعل في هذه المدة التي أنا موجود فيها؟ الجواب على هذا السؤال هو الذي سيعطي المعنى لحياتي، طموحي و ما أقصده هو معنى حياتي". إن معنى الحياة بهذه الطريقة الثانية يصبح ذاتيا، و سيختلف من شخص إلى آخر، و لا يعتمد على المباني و الأصول الغيبية أو الفلسفية، و تكتسب الأخلاق و الفضائل به بعدا آخراً ينطلق من الذات و الرغبة الشخصية.

 و عن إمكانية وجود معنى للحياة بمعزل عن الغيبيات يشرح عالم النفس المعروف إيريك فروم في كتابه "فن الوجود" أن التجربة البشرية العملية أوصلتنا إلى مجموعة من القيم و المبادئ الحميدة كالحب و التعاطف التي بإمكانها أن تشكل معنى لحياة الإنسان و تساعده في الوصول إلى الوجود الأمثل حتى لو كنا غير قادرين على شرح أدلتها نظريا، فالبُستاني مثلا يعرف ماذا يجب عليه أن يفعل ليحصل على الأزهار من دون أن يكون متخصصا في علم النبات!

يعيش الكثيرون اليوم و خاصة في البلدان العلمانية الخالية من الصراعات الدينية و المذهبية وفق هذه الطريقة لمعنى الحياة، تجد أحدهم يعترف بأنه لا يعرف عمّا إذا كان الله موجودا أم لا، و لا يعرف عمّا اذا كان المسيح مثلا ابن الله أم لا. لسان حاله يقول: أنا موجود و هذا كل ما أعرفه (يقول هذا بكل برودة أعصاب رغم أننا يمكن أن تقشعر جلودنا قلقا من هكذا اعتراف).

 على ما يبدو أن هناك مجموعة من العوامل التاريخية أدت إلى شيوع مثل هذه الطريقة في تلك البلدان، منها عامل العلمانية نفسه، و خروج الناس من سيطرة و تحكم رجال الدين في الحياة اليومية، و بالتالي شيوع التفكير الدنيوي في المجتمعات، و ظهور فلسفات تشكيكية و علوم زحزحت أو كادت يقين المؤمنين بالغيبيات. إذن قد يُجادل أحدهم أن هذه الطريقة غريبة عنا لأننا لم نعش و لا نعيش هذه العوامل. من وجهة نظري هذا الكلام غير واقعي إطلاقا، فإذا ما تأمّلنا حولنا فإن الكثيرين منا يعيش وفق هذه الطريقة أيضاً! فكم منا مشغول بطموحاته الدنيوية المختلفة عن الإشتغال بعلوم الدين و الإلهيات (و عندما أقول "دنيوي" فإني لا أقصد بذلك أنه سلبي)؟! من الطريف حقاً أننا نعيش وفق الطريقة الثانية غالبا و لكننا لا نعترف بل ندافع مع تعصب عن الطريقة الأولى!، و هذا مجرد واحد من مجموعة التناقضات التي نعيشها بسبب استيراد نتائج الحداثة دون الحداثة نفسها!

 لا يخفى أن هذه الطريقة الثانية في النظر لمعنى الحياة من الممكن أن تشكل حساسيّة كبيرة في بعض المجتمعات، لأنها و بكل وضوح تقع في مقابل الأيديولوجيات و السلوكيات المطلقة التي يجب على كل فرد السير وفقها، و تقع في مقابل التعاريف الوطنية و الأسرية و العُرفيّة المقيّدة لذات الإنسان. إنها أقرب لعقيدة سارتر من أن "الإنسان مشروع"، على أن هذه الطريقة ليس من المفروض أن تؤدي إلى إلغاء الطريقة الأولى التي يمكن أن تصبح جزءا منها.

 ليس الغرض من هذا المقال تفضيل طريقة على أخرى، فكما أن الطريقة الأولى صعبة على الكثيرين، الطريقة الثانية أيضاً ليست بالسهلة، إذ لا يتمكن الكثيرون من الحياة دون أساس غيبي. هذا من حيث الصعوبة و السهولة دون الحق و الباطل في القضية.
 
أختم هذا المقال بكلمات بوذا من كتاب "دين الإنسان" التي هي من أحسن الكلمات المُعبّرة عن معنى الحياة دون الحاجة الى الغيبيات: "ضعوا نصب أعينكم ما أكدته لكم و ميزوه عما لم أؤكد لكم، فأنا لم أؤكد لكم بأن العالم أزلي، و لم أؤكد لكم بأن العالم حادث، و أنا لم أؤكد لكم بأن العالم زائل، و لم أؤكد لكم بأن العالم أبدي، أنا لم أؤكد لكم بأن الروح و الجسد واحد، أنا لم أؤكد لكم بأن المستنير يتابع وجوده بعد الموت، كما أني لم أؤكد لكم بأن المستنير يصير إلى حالة لا هي بالوجود و لا هي بالعدم بعد الموت، أما لماذا لم أؤكد لكم هذه الأمور؟ فلأنه لا فائدة منها و لا علاقة لها بأساسيات تعاليمي، و بالمقابل فلقد أكدت لكم بأن وجود الإنسان شقاء، و أشرت إلى سبب هذا الشقاء، و علمتكم الطريق لرفع الشقاء عنكم، أما لماذا أكدت لكم هذه الأمور؟، فلأنها ذات فائدة ترجى، و لأنها متصلة بتعاليمي، تزيل الرغبة من نفوسكم، و تهبكم المعرفة، و الحكمة العليا".

 
و دمتم سالمين،،

شكرًا للقراءة
علي داود اللواتي

الخميس، ١ مايو ٢٠١٤

أترضاه لأختك؟


أترضاه لأختك؟
علي داود اللواتي

 
لكم يؤسفني حقيقةً عندما أسمع من بعض أقرأني حديثا عن المرأة فيه نزعةٌ لاواعية لتملّكها و الإعتراف بدونيّتها، و أنا هنا لا أتحدّث عن شباب عاش بين جدران أربعة منغلقة، بل عن أولئك الذين سافروا للدراسة في الخارج، و شاهدوا الفارق الحضاري و الثقافي بين مجتمعنا و المجتمعات الصناعية المتقدمة، و لا أتحدث عن شباب متديّن، أو يتحدثون من منطلق تديّن عميق، فإيمانهم على أيّة حال لا يهزّ له لا جبل و لا حتى حصاة صغيرة! إنها مسألة مجتمع ذكوري إذن لا أكثر، و في أحسن أحواله مُركّب من تديّن سطحي هامشي يَعتبر المرأة ناقصة عقل و عُرف مجتمع ذكوري.

نزعة التملّك المتجذرة هذه لاواعية في الغالب، لا ينتبه لها الرجل، و يُغطيها من دون قصد و إرادة بمجموعة من التبريرات المنطقية و الدينية، و التي قد تكون مقرونة باستشهادات من علماء غربيين، و أغلب هذه التبريرات مرتبطة بعاطقة المرأة العميقة، بمعنى أنّها مخلوقٌ عاطفي رقيق حساس، غير خاضع للمنطق و الإستدلال، و يُمكن زحزحته عن طريق العقل بسهولة.

من أمثلة نزعة التملّك الذكورية اللاواعية هذه (و الواعية أحيانا) التحكّم الكامل أو شبه الكامل بحياة المرأة، من ولادتها حتى وفاتها، و التدخّل بالوصاية على شؤون حياتها، كتحديد تخصّصها الدراسي، و تحديد شريك حياتها. هذه الأمثلة ربّما تكون قديمة بعض الشيء، و قد يُجادل أحدهم أنها في طريقها إلى الزوال في المجتمعات المتعلّمة و الفاهمة للشريعة فهماً صحيحاً، و لكنّني لا أريد التركيز على هذه الأمثلة على وجه التحديد، بل أمثلة اخرى كثيرة لا تزال موجودة حتى بين المتعلّمين و المثقّفين تُشم منها رائحة التملّك للمرأة، كربط شرف العائلة ببناتها، و عدم وجود فترة خطوبة كافية قبل عقد الزواج خوفا على الشرف، و النظرة المُريبة لأيّ إمرأة تظهر في وسائل الإعلام، أو تَنشرُ صورها في وسائل التواصل الإجتماعي، أو لا تلبس العباءة، أو تسافر و تتنقّل لوحدها.

لعلّه من الأمثلة الرائجة و الملحوظة بشدّة حتى عند المتعلمين المعاصرين: عدم استخدام لفظ "زوجتي" أو "أختي" مثلا أمام الأصدقاء، و استخدام لفظ "أهلي" عوضاً عن ذلك، و بعضهم يتطرّف أكثر ويقول "بيتي"! كما في النكتة التي انتشرت عبر الواتساب (و التي تُعبر عن وعي مدى هزليّة و سخافة هذا الأمر). الكارثة أن هذا المثال يتكرّر حتى عند الأطفال الذكور، فيستَحون من ذكر أسماء أخواتهم مثلا في صحبة أصدقائهم!. في هذا الصّدد أذكر شخصاً كان يُحضّر رسالة دكتوراة في أوروبا و حكى لي قصّته بنفسه، أنه كان بصحبة زوجته في إحدى القطارات، و بسبب الزحام اضطرّ للوقوف بعيداً عنها بعض الشيء، ليُلاحظ فجأة أنّ زوجته همّت بالنزول على المحطة الخطأ، يقول ما معناه "صرختُ باسمها، لم يكن حل إلا أن أناديها باسمها!"، أليست هذه الحادثة الواقعية لها مثيلاتها عند الرجال المتعلّمين المعاصرين و تُعبّر عن نزعة تملّكٍ لاواعية للمرأة؟

أبْرزت وسائل التواصل الإجتماعي الحديثة مثل الفيسبوك وإنستغرام مدى عمق هذه النزعة عندنا: نجدُ أحدهم ينشر أنّه في رحلة عائلية، و لا نشاهد في الصور المرفقة لمنشوره أية صور لأفراد عائلته إلا الأطفال ربّما، و في ما عدا ذلك ستجد كل شجرة و سحابة مرّت عليه، و لكن عندما ينشر أنه خرج مع أصدقائه، تجده ينشر كل الأشياء، من أسخفها إلى أشدّها سُخفاً، فرفْع صور العائلة مهما كانت محتشمة عيبٌ و فيها دلالة على ضعف الرجولة ربّما، أو على أحسن تقدير سيؤدي إلى "مشاكل و قضايا" لا داعي لها، و هذه الأخيرة طبعا من التبريرات العقلانية التي تأتي فورا في ذهن الرجل في هذه الحالة!

لا أعتقد أننا نحتاج إلى تبريرٍ دينيّ أو غير ديني لنفْهم أن المرأة كائنٌ حيٌّ يتنفس، له مشاعره و أفكاره، و من حقه أن يعيش حياة حرة و مستقلة، و يتصرّف كيفما يشاء، وفق الحدود القانونية التي تحترم حقوق الفرد، و لا يحقّ لأحد الوصاية على أفكارها و رغباتها، و لا يحق للرجال ربط شرفهم و سُمعتهم بها، أو إرغامها على سلوكٍ معين لأنها بنتُ رجل أو أختُ رجل.

من الواضح أنني هنا أتحدث على أساس (أصالة الفرد)، أصالة الفرد التي تُبنى عليها  قوانين حقوق الإنسان العالمية، مثل حرية العقيدة و حرية الرأي و حرية التعبير، أصالة الفرد التي تعني في أبسط التعاريف أنّ كل فرد له استقلاليته و رأيه و حرية التصرف فيما يملك من دون إكراه من أي طرف و من دون إلحاق أذى بالأخرين. و ليس بخافيةٍ نزعةُ (أصالة المجتمع أو الجماعة) المقابلة لـ (أصالة الفرد) في مجتمعاتنا، و التي تُستخدم لتبرير كل تَدخّل في شؤون الغير، و فرض الوصاية عليه، و تحديد سلوكياته و أفكاره وفق هوى الجماعة، و التي يستخدمها الرجل دائما عندما يريد ان يُقنّع نزعة التملك لدية تجاه المرأة!

عاطفة المرأة العميقة ليست نقصاً فيها، كما أن واقعيّة الرجل ليست ميزةً فيه، فكما أن المرأة يُمكن ان تتغلّب عليها عاطفتها (من دون تعميم) كذلك يمكن للرجل أن تتغلّب عليه مغالطاته و نزواته، و كما أنّ المرأة تخطيء فالرجل يخطيء أيضا، و ليس بخافٍ أنّ معظم الكوارث العالمية صنعها الرجال، لا فرق بين خطأ الرجل و خطأ المرأة، و المرأة لو تربّت على إدراك نفسها و لو تربّت على وعي الصحيح و الخطأ و الإعتماد على نفسها، فإنها لن تقلّ في ذلك عن الرجل، و في مثل هذا العصر لن تنقصنا الأمثلة على ذلك.

الكارثة عندما تُصغّر المرأة من نفسها بنفسها، و تَعتبر نفسها مخلوقاً ثانوياً، سقط سهواً، أو خُلق من أجل الرجل الذي هو المخلوق الأساس، الكارثة عندما تعتقد المرأة بنفسها أنّها ناقصة عقل و عاطفيّة "أكثر من اللازم"، لتُصبح بذلك عدوّة نفسها بنفسها. لقد تمكّن مجتمع الذكور منها، و غرس فيها كل ما يريد و يشتهي لتلبية إحتياجاته، و ضمان سيطرته. من هنا تنبعث أهمّية وعي الذات الذي هو المُخلّص من كثير من السلوكيات و الأفكار غير الطبيعية: وعي الذات بقدراتها و إمكاناتها و مخاوفها، بمناطقها الساطعة و الداكنة. وجديرٌ بالذكر هنا أنّ الحرية و الإستقلالية لا معنى و لا مصداقيّة و لا حقيقة لها من دون وعي الذات و من دون وعي الأثار الواقعية المترتبة عليها و وعي المسؤولية تجاه تلك الأثار.

لعله جدير أن يَسألَ الرجلُ نفسه عمّا إذا كان يمتلك مثل هذه النزعة اللاواعية، و تجربة ذلك بسيطة جدا، فلْيُجرّب الأحاسيس أو الأفكار التي تُراوده حين يحاول أن يرفع صورة عائلية على الإنستغرام مثلا، أو عندما يترك زوجته تسوق السيارة و هو يجلس بجانبها عندما يخرجون للعشاء في ليلة رومانسية مثلا، أو عندما يوافق على أن تمتد فترة الخطوبة لإحدى بنات عائلته لسنة مثلا من دون عقد شرعي مع بقاء نوع من التواصل بينها و بين خطيبها!، أظن أن هذه الأمثلة بإمكانها هدم جدار العقلانية الذي يصنعه الرجل حول دماغه ليغطي بها دوافعه الحقيقية.
 
شكرا للقراءة

 

الأحد، ٩ مارس ٢٠١٤

حُريّة الإختيار عند إيريش فروم

حُريّة الإختيار عند إيريش فروم
قراءة في كتاب (جوهر الإنسان)

سمعنا أو قرأنا الكثيرَ عن حُرَية الإختيار و الإرادة لدى الإنسان، و هل هو خيّرٌ أو شرّيرٌ في جوهره، و لكنّ كل أو معظم ما قرأناه و سمعناه كان نتاج اللاهوتيين من الفلاسفة و المُتكلّمين، و الذي هو في كثيرٍ من الأحيان إن لم كل عبارة عن تبريراتٍ جدليّة لإيمانٍ مُسبقٍ بالله، و لكنّ الأمر في هذا الكتاب مختلفٌ جدَّا، بل و مثيرٌ أيضاً، فالكاتبُ هنا – وإن كانت لديه ميولٌ دينيّة حسب الظاهر – إلا أنه عالِم نفسٍ كبير، و صاحب تجربةٍ واسعة في علاج المرضى النفسيّين،  إنه الألماني إيريش فروم.

يبدأ فروم كتابه بسؤال أساسي: "هل الإنسانُ ذئبٌ أم خروف؟"، و الذي – في نظره – صيغةٌ خاصةٌ لسؤالٍ شكّل إحدى أكثر المشكلات أساسيّة في الفكر الفلسفي و الديني الغربي: هل الإنسان في جوهره شريرٌ و فاسد، أم أنّه خيّرٌ و كامل؟. يُقررُ فروم قبل الإجابة على هذا السؤال و قبل عرض الحل الخاص به لمشكلة الحُرية أن يُبيّن سيكولوجية أشدّ أشكال التوجيه البشري خطراً و فساداً – أو شرًّا – وهي: حُبّ الموت (النكروفيليا)، النرجسيّة الخبيثة، و التثبيت السّفاحي التّعايشيّ. إنّ أقل ما يُمكن الخروج به من تحليل فروم لهذه الأشكال الثلاث هو الوعي بمدى السلبيّة التي يُمكن أن يذهب إليها الإنسان، متجاوزاً كل المُحرّمات الإجتماعيّة و الطبيعيّة، و مازجاً لكلّ معاني الحياة و الموت في داخله. إنّ كل هذه الأشكال ما هي إلا هروبٌ من المُضُيّ قدُماً في الحياة، و من تحقيق الكيان البشري الكامل، إنّها كما يُسمّيها "نكوصا" مرَضيّا و في أقصى حالاته رُعبا و شراسة. يتساءل فروم: أليس هذه الحالات في أكثر درجاتها تطرفا تؤدي إلى الإعتقاد بالحتميّة و الجبر؟ 

يقرر فروم أنّ جوهر الإنسان ليس "حقيقة" معيّنة اسمها "الخير" أو "الشر" بل "تناقضٌ متجذّر" يحتاج بطبيعته إلى حلولٍ مستمرة، والحل إما في النكوص كما هو الحال في الأمراض العقلية و النفسيّة الشديدة، و إما في التقدم و تحقيق الإنسانية الكاملة. ففي "الإنسان العادي" قوى متناقضة و ميولا متقابلة يمكن أن تؤدي به إلى أي الطريقين. و هو يُركز على "الإنسان العادي" لأنّ بعض الأشخاص يكونون قد تجاوزا كل المراحل و وصلوا إلى نقطة "اللاعودة"، و فقدوا بذلك حريتهم و قدرتهم على الإختيار، فهم مُسيّرون، لا حول و لا قوة لديهم، و قد يتوهّمون أنهم أحرار، و لكنّهم ليسوا أكثر من ألات تُحرّكها دوافع لاواعية. يؤيد فروم بهذه الطريقة إلى درجة كبيرة مذهب "الإختيارية" و هو مذهبٌ لا يقول بالحتميّة، و لا يقول باللاحتميّة أيضا.

يجادلُ فروم أنّ تبريرات القائلين باللاحتميّة إما تتطلب إيمانا مُسبَقا بالله، كما في قول أنّ الإنسان لو لم يكن حُرا لما وضعه الله مسؤولا، و إما تُعبر عن نزعة نفسيّة لعقاب النفس و الأخرين، كما في قول أن الأنسان يَختبر حريته ذاتيا، و إما ناتجة عن تَوهّم الحرية، كما في قول أن وعي الحرية دليلَ وجودها، و عن هذا التبرير الأخير يُشير فروم إلى رأي اسبينوزا في المسألة، و هو أنّ الإنسان يتوهّم الحرية لأنه يعي رغباته، و لكنه لا يعي الدوافع اللاوعية خلف تلك الرغبات، ليتساءل بعد ذلك - و بتعجب - عن عدم تعرض القُدماء لمسألة اللاوعي عند الحديث عن الحرية والإختيار لدى الإنسان.

أمّا الحتميّة، فيكتفي فروم في مجادلتها بالتجربة الشخصية للأفراد، و كسرهم لكل التوقّعات و سلاسل السببيّة. كما يُعبّر عن تجربته الشخصية في علاج المرضى النفسيين الذين بدا أنهم مُقيّدون تماما، و لكنّهم تمكّنوا من التقّدم و كسر القيود. و لكن فروم – و كما أشرتُ سابقا – لا يُريد أن يُنكر وجود حالات وصلت إلى نقطة "اللاعودة". 

إن حُرية الإختيار عند فروم – و كما عند غيره – تعني أن يسلك الفرد وِفق اهتماماته العقليّة، أو بتعبير أدق، وِفق ما  تُقرره أفكاره الواعية، و ضدّ رغباته العاطفية اللاوعية، و هنا تحديدا يثير موضوعا هاما جدا، و هو دور الوعي في تحديد عمّا إذا كان "الفرد" فعلا حُرّا أم لا، و جديرٌ بالذكر هنا أن فروم يعني "الفرد" حرفيا، و ليس "الإنسان"، و هو هنا يختلف مع القُدماء الذين تحدّثوا عن مفاهيم عامة كـ "الإنسان" و "الخير" و "الشر"، و بشكل مُجرّدٍ جدّا، فلا يوجد في نظره هكذا مفاهيم، إذا يُمثّل كل فردٍ إمكانيّاته الخاصة، كما لا يوجد "خير" أو "شر" عام بل أفعالٌ ملموسة يُقصد بها الخير أو الشر وفق تعريفٍ محدّد. 

الوعي مهمُّ جدّا عند فروم، و هو هنا يتحدّث عن وعي عميق، يشملُ وعي الفرد للدوافع اللاواعية خلف رغباته، و وعيه للتبريرات المنطقيّة التي يُقدّمها ليتجاوز الصراع، و كذلك وعي العواقب والأثار الحقيقية التي يمكن أن تترتب على سلوكه، و لكن هذا كله لن يكفي لتحقّق الحرية، فلابد من وعيٍ أخرٍ شديد الأهمية و هو وعيُ مرحلة الإختيار الحقيقي. و يقصد فروم بهذا الوعي الأخير أن الفرد يَمر بسلسلة أحداث قبل الموقف الذي يعتبره نهائي و مصيري، و عليه أن يُقرر و يحسم موقفه مبكرا في بداية سلسلة الأحداث، و إلا فإنه سيفقد القدرة على الإختيار، و لن تكون الأحداث اللاحقة إلا وهْماً بالقدرة على إمكانية التغيير حتى يسقط في الفخ. يُشدّد فروم أيضا على وعي البدائل "الحقيقية"، ففي كل موقف تتوفر لدى الفرد عدة بدائل و خيارات يُمكن أن يختار بينها، و هنا مرة اخرى يختلف مع الحتميين الذي يعتقدون بوجود خيار واحد حقيقي و ضروري، إلا أنه يقصد البدائل "الحقيقية" أي "الواقعية" و ليس تلك الناتجة عن "تخيلات" الفرد.

إن الفرد إذا تردّد كثيراً في الإختيار حين يكون حُرا، أو يقطع عمراً في القرارات والإختيارات الخاطئة من بين كل البدائل المُتاحة له، فإنه يصل إلى "نقطة اللاعودة"، و التي يُعبّر عنها فروم أحيانا بتعبيرٍ دينيّ: قسوة القلب، و لكنّ ليُحدّد عمّا إذا كان فعلا مسؤولا عن حالته الأخيرة هذه يتساءل فروم عن "الوعي": هل كان الفرد واعيا لذاته و وضعه و قراراته؟. هنا يعطينا فروم تعريفا مختلفا للمسؤولية، لا صلة له بالعقاب ولا بالذنب، و في هذا التعريف تعني المسؤولية فقط "أنني واعٍ لما قد فعلتُه".

الجهد هو أيضا له دور هام عند فروم، إذ لا ينفع أي وعي من دون جهد شديد للتقدم إلى الأمام. فالوعي – بمعناه العميق المذكور – والجهد الشديد هما شرطان ضرويان عند فروم لتحقيق حُرية الإختيار و الإرادة عند الفرد، و بدونهما لا حُرية و لا إختيار. و فروم – كما يصرح بنفسه – ليس وحيدا في مذهبه هذا، بل يتفق معه كلا من فرويد و ماركس واسبينوزا، فكل هؤلاء المفكرين العظام و إن بدا أنهم حتميون بسبب بعض تصريحاتهم الخاصة، و التي لم تكن سوى تعبيرات عن ملاحظتهم لدرجة الميول المتوفرة لدى الفرد و المجتمع، إلا أنهم كانوا يؤمنون و بعمق بإمكانية التغيير، و ليس من دليل على ذلك أكثر من : كتاب "الأخلاق" لاسبيننوزا، و الثورة الإشتراكية لماركس، و علاجات فرويد لمرضى "العُصاب".

إنني أتساءل بعد قراءة الكتاب عن نسبة من يملكون الوعي العميق و قدرة الجهد الشديد الذي يتحدث عنه فروم، ممّن كانوا و سيكونون!

شكرا للقراءة
علي داود اللواتي

السبت، ١١ يناير ٢٠١٤

قراءة في كتاب "التجربة الدستورية في عمان" لبسمة مبارك سعيد

قراءة في كتاب "التجربة الدستورية في عمان" لبسمة مبارك سعيد
علي داود اللواتي






لا أنوي كتابة ملخّص لهذه الدراسة؛ فالكتاب بنفسه يحتوي على ملخّص جيد، ولكن على وجه سريع الدراسة تدّعي أن سلطنة عُمان في عهد السلطان قابوس تنطبق عليها نظرية ميغدال للدولة القوية و المجتمع الضعيف، و الدولة القوية هنا لا تعني الدولة المتقدمة أو ما شابه بل تعني الدولة التي تستطيع أن تخترق المجتمع الذي تحكمه و تفرض رؤيتها و قِيمها عليه، و ذلك بامتلاك موارد البلاد أو أسباب المعيشة الأساسية التي تتوفر في ذلك المجتمع. تذهب الدراسة إلى إثبات هذه الدعوى عن طريق التجربة الدستورية التي مرت بها السلطنة خلال عهد السلطان قابوس، فالسلطان قابوس في بداية عهده رفض إصدار أية وثيقة دستورية إذ لم يكن مضطرا للتنازل لأحد أو مناقشة أحد من الشعب أو مؤسسات المجتمع، و لكنه عندما أحسّ بالحاجة إلى دستور للبلاد أصدره بعد  ٢٦ عاما من حكمه، و حتى هذه المرة لم يناقش أحدا من ممثلي الشعب أو مؤسساته. تذهب الدراسة بعد ذلك لمناقشة ثغرات الدستور العُماني كما كان قبل التعديلات التي صدرت عام ٢٠١١ بعد أحداث الإحتجاجات و الإعتصامات، و كذلك تتناول التعديلات الدستورية الأخيرة بالنقد و التحليل.

مميزات الدراسة

١- تتمتع الدراسة بدرجة لا بأس بها من الموضوعية، فبالرغم من أن الدراسة لا تؤيد أسباب الحكومة في خياراتها الدستورية إلا أنها ذكرت هذه الأسباب و لم تُهملها.

٢- فتحت الدراسة أجزاءا من الماضي القريب للبلاد، و الذي ربما يكون مجهولا لكثير من شباب الجيل الحالي، كدستور طارق بن تيمور و موقفه من نظام أخيه السلطان سعيد بن تيمور و ابن أخيه السلطان قابوس، و أسباب سياسة التقشف التي اتبعها السلطان السابق سعيد بن تيمور، و كذلك سياسة السلطان قابوس وطريقة تعامله مع مؤسسات المجتمع العُماني المختلفة في بداية عهده.

٣- فتحت الدراسة آفاقا مستقبلية جادة لتفكير الشباب و جميع المواطنين في ما يخص مواضيع كأهمية وجود دستور مُقيّد للحكومة، و فصل السلطات، و استقلالية القضاء استقلالا حقيقيا. و النقطة الأهم التي نجحت في خلقها أو تصويرها الدراسة هي مسألة خلافة السلطان و الثغرات الموجودة في الطريقة الحالية لتنظيمها حتى بعد التعديلات الأخيرة في عام ٢٠١١، و ما يتبع ذلك من مخاوف جداً جادة.

٤- تعطي الدراسة توضيحا جيدا للسلطات الثلاث التشريعية و التنفيذية و القضائية و أدوارها و حدودها النظرية، و كذلك أدوار مختلف المحاكم كمحكمة القضاء الإداري و المحكمة الدستورية و المجلس الأعلى للقضاء.

٥- نجحت الدراسة في توضيح ثغرات الدستور العُماني، و التي يمكن تلخيصها في أنه - حتى بعد تعديلات عام ٢٠١١ - أقرب للدستور الشكلي الذي يصف بُنية النظام القائم بدل تقييده، و خاصة فيما يتعلق بفصل السلطات الثلاث التشريعية و التنفيذية و القضائية، إذ تتركز السلطة الحقيقية في يد السلطة التنفيذية التي يرأسها السلطان قابوس.

٦- الدراسة جريئة في محتوياتها، ونوعا ما تكسر تابو السياسة العُمانية كنقد الصلاحيات المُطلقة للسلطان قابوس وذكر أنه في السبعينات من عُمره أي في نهايات عُمره.

ملاحظات على الدراسة

١- من الطبيعي جداً أن تؤيد أية دراسة جانبا دون آخر في الموضوع الذي تتناوله بالبحث و التحقيق، و لكن هذه الدراسة فيها نوع من الإنحياز غير المبرر بشكل كافٍ للجانب الآخر المُضاد لدعاوي الحكومة، فالدراسة مثلا و إن لم تُهمل أسباب الحكومة في عدم إصدار دستور للبلاد في بداية عصر النهضة، إلا أنها و كأنها لا تؤيد حسن نية الحكومة في ذلك، بل تنتقد أبسط و أوضح الأسباب التي قدمتها الحكومة و هو عدم جاهزية الشعب في بداية عصر النهضة لخطوة المشاركة في صياغة دستور للبلاد.

٢- الدراسة تؤيد فكرة المشاركة الشعبية العامة عبر مجالس تشريعية في رسم سياسة البلاد الداخلية والخارجية، إلا أنها لا تدعم هذه الفكرة بتجارب واقعية، فالشعب مثلا كانت لديه ولا تزال فرصة انتخاب ممثلين أكفاء في مجلس الشورى، فهل نجح الشعب في هذه المهمة؟ و هل يبدو أنه سينجح في انتخاب ممثلين أكفاء لإنجاح فكرة دستورٍ تعاقدي للبلاد؟! 

٣- تُلمّح الدراسة في بعض سطورها أن المشاكل الحقيقية للدستور العُماني قد تظهر بشكل كبير بعد السلطان قابوس، يعني تربط الثغرات الدستورية بالخلافة كثيرا وليس بأصل وجود الثغرات.


شكرا للقراءة

السبت، ١٤ ديسمبر ٢٠١٣

خربشات حداثية (الجزء الثاني)

خربشات حداثية
 
(3) أصول الدين
 
معلومٌ أنّ ما يُسمى بأصول الدين الإسلامي هي من وضع المتديّنين أنفسهم، بمعنى أنهم استخرجوها من النصوص الدينية المُعتبَرة لديهم، كما أن بعض هذه الأصول كأصل العدل الإلهي وُضع لأسبابٍ تاريخيةٍ بحتة، وممّا لا شكّ فيه أن أصولا ثلاثة على الأقل لا يمكن أن يكون المرء مسلمًا دون الإيمان بها: التوحيد والنبوة والمعاد، وأقول "ممّا لا شك فيه" لأن هذه الأصول بمعناها العام على الأقل واضحة وصريحة جدا في النصوص الدينية الإسلامية. ولكن ما يعنيني هنا هو انه اليوم هل يمكن الإكتفاء بالبحث في هذه الأصول الثلاث لنُثبت الإيمان أو الإسلام؟
 
اليوم وبشكل عام لم يعد كثير من المتعلمين والعُقلاء يهتمون بالتعقيدات الفلسفية والكلامية التي كان يهتم بها السابقون من قبيل الحسن والقبح الذاتي أو العقلي، حيث اتجهوا الى الإهتمام بمواضيع كالحرية والحقوق والواجبات والعلم والمدنية والحداثة وما بعد الحداثة والمعنوية وغيرها من المفاهيم التي انبثقت من عصر التنوير الأوروبي وتركت تأثيرها في كل أرجاء الأرض ومختلف الثقافات. فاليوم لا يمكن الإكتفاء بهذه الأصول التي حددها السابقون وفقا لظروفهم التاريخية للإيمان وتثبيته تثبيتا تاما، ولابد من الحديث عن مفاهيم أخرى جديدة أيضا.
 
(4) المرجعية الدينية
 
أن ترجع للمختص في ما لا تعلمه أمر بديهي وطبيعي جدا، فالحديث عن مرجعية في علوم الدين والعبادات لمن يهتم بها يجب أن يكون أمر بديهي وطبيعي أيضا، ولكن المشكلة تكمن في أنه هل يُؤخذ بكلام المرجع الديني من دون سؤال؟
 
التعليم المتقدم والحداثة تركت فينا صفة السؤال عما لا نعلم، حتى مع المختص، فعندما نذهب للطبيب في حالة المرض مثلا ليُشخص حالتنا المرضية ويحدد لنا دواءً، لا نتركه إلا بعد كمًّا من الأسئلة عن العوارض الجانبية ومدة المرض والوقاية وأي خطورة مستقبلية، وعند عدم الحصول على فائدة نراجعه مرة اخرى وربما مع بعض التوبيخ، وإذا لم تتحقق أية فائدة حتى بعد ذلك نُغير الطبيب بطبيبٍ أخر.
 
يحلو لمؤيدي تقليد المرجعية ذكر مثال الطبيب والمريض دائما، ولكنهم يتجاهلون كيف يتعامل المريض المتعلم اليوم مع الطبيب!
 
شكرا للقراءة
علي داود اللواتي

الأربعاء، ٣١ يوليو ٢٠١٣

خربشات حداثية


(١) مقدمة:

الحداثي والمتدين التقليدي كلٌّ منهما يُفكّر بطريقة مختلفة عن الآخر، وبتعبير أدق يفكّران بمنطقٍ مختلف. فالحداثي عقلانيٌّ من الطراز الأول وفي كل شيء، وتفكيره دنيوي بالدرجة الأولى وخاضعٌ لما يراه مصلحة الناس الواقعيّة "في هذه الدنيا" خصوصا فيما يتعلّق بأمور المدنيّة والحضارة والدولة. أمّا المتديّن التقليدي وإن كان يدّعي العقلانية إلا أنّ مُسلّماته غير الخاضعة للشك والتساؤل كثيرة جدّا. أضف إلى ذلك أن تفكير المتديّن التقليدي أُخرويٌّ بحت، فكلُّ همّه في ما يفعله هو أن يكون مطابقا لشرع الله وحتى عندما يتحدّث عن مصلحة الناس فإنّه يتحدّث عن المصلحة التي وجدَ الله يُحدّدها للناس. مع الأخذ بعين الإعتبار هذه الفروق الجوهرية بين منطِق الحداثي ومنطِق المتديّن التقليدي تتوضّحُ لنا صعوبة ولربّما استحالة أن يُقنع أيٌّ منهما الآخر.

إنّ إختلاف المنطِق هذا هو بسبب الإطار المختلف الذي يعيش فيه كلا من الحداثي والمتديّن التقليدي، فالحداثي مُحاطٌ بالأفكار الأجنبيّة عن ما حوله والتي قد يُجادل في كونها عالَميّة ولا علاقة لها بمجتمع بعينه. أمّا المتديّن التقليدي فمُحاطٌ بالأفكار الدينيّة التقليدية وقد يُصاحبها بعض التجديد الشكلي والتعبيري الذي لا يُغيّر من مضمونها القديم. وطبعا الحل لهذه المشكلة إذا كان ممكنا هو أن يُحاول كلٌّ من الحداثي والمتدين التقليدي أن يخرج من إطاره، فالحداثي مثلا يُعطي لنفسه الفرصة الكافية للتفكير في أسس الدين وفلسفته وأصوله وتطور معارفه، وكذلك يُطالع المتدين التقليدي أفكار الحداثي لغرض التعرّف الموضوعي وليس الردّ أو النقض. على أني ومن خلال متابعتي أظن أن الحداثي يصيرُ حداثيّا لأنه لا يستطيع أن يستند على معارف الدين بنفس يقين المتدين التقليدي.

 
(٢) هل الدين هو سبب تخلّف المسلمين؟

الدين بنصوصه ساكت لا ينطق إنما فهم النصوص هو الذي يُحدّد عمّا إذا كان يُسبّب تخلُّفا أو تقدُّما. ومن الإنصاف الإعتراف أنّه عندنا نماذج كثيرة في تاريخنا وحاضرنا الإسلامي تدعو إلى التخلّف الفكري والعلمي سواءٌ بدعوى التمسّك بنهج السّلف أو غيره. إذن بعض النماذج من الفهم الديني يُمكن أن تُؤدي فعلا إلى التخلّف عن ركب الحضارة. هنا يُمكن أن نُفصّل أكثر ونسأل: هل المباحث الخِلافيّة بين المسلمين كمبحث الإمامة مثلا من أسباب تخلّف المسلمين؟ للجواب قبل كلّ شيء يجب أن نُوضّح أنه لماذا أو ماهو الدافع لمواصلة البحث والنقاش والجدال حول هذه المباحث؟! ويجب أن نُوضّح أيضاً ماذا نقصد بالتخلّف هنا؟ 

إذا كانت هذه المباحث مثلا لأغراض تاريخية بحتة وللإستفادة من تجارب الماضين لرسم حياتنا المعاصرة ومستقبلنا القادم فهذا شيءٌ جيّد ولا ضَير فيه، وكذلك إذا كانت مثلا بدافع أنْ يعرف الفرد الطريقة الصحيحة لممارسة العبادات لإطمئنانه الشخصي فيعرف يَأخُذ بأقوال مَن ويَترك أقوالَ مَن فهذا أيضاً لا ضيرَ فيه، ولكن إذا كانت بدافع الشجار والجدال والنزاع أفلَن تكون سبباً لحصر المسلمين في قوقعةٍ ضيّقةٍ يتشاجرون ويتنازعون فيها؟ أفلَن تكون سبباً للتخلّف الفكري والعِلمي؟ تأمّل أننا هنا لا نتحدّث عن الحق والباطل في هذه المباحث ولا نتحدّث أنّه هل هي جزء من العقيدة التي لا يتمّ الإيمان إلا بها أم هي مباحث تاريخيّة لا تغني ولا تسمن من جوع. نحن نتحدّث وبواقعيّة عن أنه متى وكيف تُصبح هذه المباحث سببا للتخلف فقط!

 
(٣) هل الدين ضد العلم والفكر؟

يبدو أن نسبةً من المسلمين اليوم تجاوزوا مرحلة الخلاف بين الدين والعلم والفكر، فهم ومع إلتزامهم بالدين التقليدي متفوقون في مجالات العلم، ولا يحضرني غير مثال الجمهورية الإسلامية الإيرانية اليوم كدولة ذات نظام إسلامي لا يُعجب الحداثيّين ولكنها متفوقة في مجالات العلم والأدب والفكر. إذن مرة أخرى بعض نماذج الفهم الديني لا تُضاد التطور العلمي والأدبي والفكري، ولكن يجب أن نُفرّق بين التفوق أو النجاح والأبداع. النجاح يمكن أن يخلق تغييرا ولكنّه لن يكون تغييرا جذريّا وعميقا ولربّما لن يتأثر به أحدٌ غير صاحبه أو مجموعة صغيرة مصاحبةٌ له، ولكنّ الأبداع يخلق التغيير الجذري والواسع، واذا تتبّعنا حياة الكثير من المبدعين سنجد أنه كانت لهم آراءٌ "شاذة" عن المألوف في مجالات الدين والحياة.

الثلاثاء، ٣٠ أكتوبر ٢٠١٢

قراءة في انتصار الثورة الإيرانية عام ١٩٧٩


كان واضحا بالنسبة لي من المرة الأولى التي تابعتُ فيها مسلسل "روح الله" الذي يسرد سيرة الإمام الخميني وأحداث الثورة الايرانية الشعبية (ولا أقول الإسلامية لأنها لم تكن نتاج جهود الإسلاميين فقط) التي كان مرجعها الروحي، كان واضحا لدي أن عوامل انتصار الثورة لم تكن محصورة في الشخصية الكايزمية للإمام الخميني أو جهوده وجهود تلاميذه. كان عاملا آخراً - حسب ما بدا لي - لا يقل أهمية عن غيره وهو شخصية آخر شاهنشاهات ايران محمد رضا بهلوي.

لم يكن هذا الرجل نسخة من جاره الديكتاتور العراقي صدام حسين الذي استخدم الأسلحة الكيماوية للقضاء على التمرد الشعبي واستطاع الصمود بالحديد والنار حتى بعد سقوط ١٤ محافظة من اصل ١٨ في مطلع تسعينيات القرن الماضي!. كان الديكتاتور العراقي عنيدا لا مباليا. ولكن الديكتاتور الايراني - حسب ما بدا لي - كان واقعا تحت المراقبة الإعلامية وفوبيا السمعة السيئة وارشادات الولايات المتحدة الأمريكية الحذرة بنفسها والمحاطة بشعارات الحقوق والديمقراطية (طبعا بعد نجاح الثورة الإيرانية تعلمت الولايات المتحدة وكذلك كل دول المنطقة خطورة الرضوخ لفوبيا السمعة السيئة)!. نعم قد يكون هذا التحليل كله مجرد هراء لا واقع وراءه.

المهم وأنا أقرأ كتاب (مرضى حكموا العالم، ترجمة رشاد جميل فياض) والذي يتناول الشاه محمد رضا بهلوي أيضاً ظهر لي شيئا مما كان في خواطري. ينقل المؤلف من تقرير سري لوكالة الاستخبارات الأمريكية نشرته الصحافة الأمريكية سنة ١٩٧٥: "محمد رضا بهلوي، شخصية لماعة وبراقة لكنه خطر، مصاب بالعظمة والكبرياء، معقد نفسانيا من معاملة والده الظالم خلال طفولته.. كما أنه كان شديد الخجل من أصله الوضيع.. كان مصابا بالخوف من عدم الكفاءة الجنسية كما أنه مصاب منذ صغره بعقدة النقص.. كان يرتجف أمام والده..".

يقول المؤلف أيضاً: "أما طفولته فكان طبيعيا أن تنعم بالضمان. ولكنه كان لعبة بين يدي أمه وشقيقته المتسلطة، توجهانه كيفما تشاءان. ولهذه الأسباب نشأ خجولا ضعيف الشخصية، يفضل العزلة، والتصوف، اذا صح التعبير. وبهذه العزلة والتصوف، يعوض الى حد ما، عن عدم الثقة بالنفس". ليس هذا فقط بل إبان اندلاع التمرد الشعبي في البلاد والأزمة الإقتصادية الخانقة "أصبح حزينا مهموما بعد أن اكتشف لديه الأطباء الفرنسيون مرضا خطيرا غير قابل للشفاء". "وقد تصور المراقبون والمحللون بأن الشلل والتقاعس الذين أصيب بهما الشاه لا يعودان فقط الى ضغط الأحداث، وإنما بسبب تفاقم حالته الصحية، مما أفقده الكثير من ردة الفعل والثقة بالنفس".

شكرًا للقراءة
علي داود اللواتي