الحكيم يأكل البطيخ
جعفر رجب
مجهول المصدر
كان الحكيم متربعا على شاطئ البحر، في ليلة اكتمل فيها القمر، وبدا كخبز إيراني.
كانت بيده بطيخة بلا بذور، يأكل منها حينا وحينا...
في تلك الليلة كنت أسير باحثا عن شيء لا أعرفه، نظرت الى الحكيم، وجلست بالقرب منه، حيّيته وقبّلت رأسه، وجلست بالقرب منه دون إذن منه، لم يجبني، ولم ينظر إليّ، وأكمل أكله للبطيخ الذي بدا لذيذا !
قلت له: يا حكيم الحكماء، وبحّار البحّارين، أيّها العالم بالدّنيا والدّين، أعطني مما لديك !
نظر إليّ قائلا: لا أعطيك فهذه فاكهة للحكماء الواصلين، لا الجاهلين الغافلين، فلا طاقة لك بها..
لم أكن أعرف أنّ البخل ملازم للحكمة، لكني بادرته ساخرا: مولاي إنها بطّيخة، هل هي من فاكهة الجنة ؟!
- يا أهبل وهل الجنّة سوق خضار حتى تبحث فيها عن الفاكهة ؟! إن جنتك هنا - وأشار الى قلبه - والجحيم هنا، وأشار الى بطني !
هززت راسي فأنا في مواجهة ملك الحكمة وسيّدها، فقلت له: يا مولاي ما قصدت سوى إني لا أريد البطّيخة، بل الحكمة ... عضني يا مولاي !
- اسمح لي فانا لا أعضّ، اذهب وابحث لك عن كلب يعضّك !
السخرية جزء من الحكمة، وكلّما ازداد حكمة ازداد سخرية، قلت له: يا مولاي إني ابحث عن الحكمة، إنها ضالّتي فأروي عطشي من بئر حكمتك !
- احفظ لسانك يا بني فالحكمة بحر لا بئر، والحكمة لا تروي، بل تزيدك عطشا، ولكن إن شئت أعطيتك بعضه...
صمت الحكيم قليلا لأنّه كان مشغولا بأكل البطيخ ثم نظر للسماء وسألني:
- ماذا ترى في السماء؟
أجبته بداهة: أرى النجوم !
- إنك لا ترى شيئا، إني أرى لآلئ كانت على جيد ملاك، قطعت وانتثرت على ثوب سهرة السماء !
- هل أنت عاشق يا مولاي؟
- أنا اعشق روح هذا الكون، أرى بقلب عاشق، وأنت ببطن جائع، فمازلت تراقب هذه البطيخة التي بين يدي !
- يا مولاي قسما بربّ السماء الممطرة، والأشجار المورقة، لا أريد بطيختك بل حكمتك !
اعتدل الحكيم في جلسته، وبدأ يتحدث وكأنه يحدّث نفسه:
اعلم إن الله واحد، والمخلوقات كثرة، وهل تعلم ماذا يفعل مخلوق واحد، الواحد قد يساوي مليون إنسان، ومائة مليون إنسان لا يساوون واحد، وهؤلاء انتم !
واعلم إن العرب ثلاث: مختلفون، ومتخلّفون، ومخلّفون، فالمختلفون قوم يجتمعون، يختلفون على الاتفاق، ويتفقون على الاختلاف، والمتخلّفون قوم يتشابه فيهم الكبير والصغير، العالم والجاهل، يزرعون القبور، وهي زراعة تبور، والمخلّفون قوم لو دعاهم داعي العمل، لتلحّفوا وتوسّدوا الوساد، وما ساد يا بني قوم كانت الوسادة رفيقتهم، واللحاف صديقهم، والغراب دليلهم !
صمت الحكيم واكل من بطيخته، فقلت له: زدني يا مولاي، فحكمتك سحابة ممطرة في صيف قارض ... فأكمل الحكيم:
واعلم أن الوزراء عندكم ثلاث: تأزيم، وتقزيم، وتحزيم، أما التأزيم فهم أساس البلاء، هم وكراسيهم سواء، أما التقزيم فهم ممن يصغّرون الكبائر، ويكبّرون الصغائر، أما التحزيم فلا أعرفهم، ولكني قلتها لزوم القافية !
صمت الحكيم لحظة وأكل بعضا من البطيخ، ورمى قشرتها الى السماء، ولم تسقط - فقد مرّ طائر النورس فوق رأسه وتلاقف بمنقاره قشرة البطيخ - وأكمل الحكيم قائلا:
واعلم يا بني إن النوّاب ثلاث: استجواب، واستحلاب، واستلاب، أما نواب الاستجواب فهم ممّن يقال لهم استجوبوا فيستجوبون، يدفع لهم فيأخذون، أما الاستحلاب فهم الذين يرون البلاد بقرة حلوب، ولبن لا يروب، أما الاستلاب فهم ممن يسرقون الجيوب، مزارعهم في الشمال، وشاليهاتهم في الجنوب !
تعب الحكيم من الكلام وسكت، نظر الى النجوم، وخط على رمال الشاطئ خطا مستقيما، وقال لي:
اعلم إن الخطّ المستقيم، اقصر طريق للوصول بين نقطتين، ولكن ليس أفضلها، فاحذر يا ولدي... صمت قليلا ثم أكمل حديثه:
واعلم يا ولدي أن الناس عندكم ثلاث: خز، وقز، ومرتز، فالخز قوم يجلسون في المقاهي ويخزون خلق الله، والقز قوم هوايتهم القز في المجمّعات وافتتاح المولات، أما المرتز فهم قوم يرتزون في كل ديوان، ومؤتمر، وافتتاح، وصفحة مجتمع !
واعلم يا ولدي أن بلادكم بها ثلاث: دايخ، وبايخ، ونايخ .... فالدايخ حكومتكم، والبايخ مجلسكم، والنايخ تاجركم، وسبب مصيبتكم في كل ذلك يا ولدي، إن هايفكم شايخ !
صمت الحكيم وأكمل أكل البطيخ، فقلت له: مولاي يا سيد الحكمة، ويا جسر يوصلني للحقيقة أكمل .. فردّ عليّ دون أن ينظر الى وجهي: يا فتى دعني وشأني، أوتريدني أن أرشدك الى شيء خير مما قلته لك؟ قلت له: نعم يا سيدي ... قال: إنه أكل البطيخ !
واستمر في أكله للبطيخ، وابتعدت عنه قليلا، وضعت يداي تحت رأسي ونمت على رمال الشاطئ، فاذا بي أرى نجوم السماء، عيون ملائكة تغمز لي، فغمزت لها وابتسمت، ونمت على أصوات أمواج البحر ... وصوت أكل البطيخ!
شكرا للقراءة..
جعفر رجب
مجهول المصدر
كان الحكيم متربعا على شاطئ البحر، في ليلة اكتمل فيها القمر، وبدا كخبز إيراني.
كانت بيده بطيخة بلا بذور، يأكل منها حينا وحينا...
في تلك الليلة كنت أسير باحثا عن شيء لا أعرفه، نظرت الى الحكيم، وجلست بالقرب منه، حيّيته وقبّلت رأسه، وجلست بالقرب منه دون إذن منه، لم يجبني، ولم ينظر إليّ، وأكمل أكله للبطيخ الذي بدا لذيذا !
قلت له: يا حكيم الحكماء، وبحّار البحّارين، أيّها العالم بالدّنيا والدّين، أعطني مما لديك !
نظر إليّ قائلا: لا أعطيك فهذه فاكهة للحكماء الواصلين، لا الجاهلين الغافلين، فلا طاقة لك بها..
لم أكن أعرف أنّ البخل ملازم للحكمة، لكني بادرته ساخرا: مولاي إنها بطّيخة، هل هي من فاكهة الجنة ؟!
- يا أهبل وهل الجنّة سوق خضار حتى تبحث فيها عن الفاكهة ؟! إن جنتك هنا - وأشار الى قلبه - والجحيم هنا، وأشار الى بطني !
هززت راسي فأنا في مواجهة ملك الحكمة وسيّدها، فقلت له: يا مولاي ما قصدت سوى إني لا أريد البطّيخة، بل الحكمة ... عضني يا مولاي !
- اسمح لي فانا لا أعضّ، اذهب وابحث لك عن كلب يعضّك !
السخرية جزء من الحكمة، وكلّما ازداد حكمة ازداد سخرية، قلت له: يا مولاي إني ابحث عن الحكمة، إنها ضالّتي فأروي عطشي من بئر حكمتك !
- احفظ لسانك يا بني فالحكمة بحر لا بئر، والحكمة لا تروي، بل تزيدك عطشا، ولكن إن شئت أعطيتك بعضه...
صمت الحكيم قليلا لأنّه كان مشغولا بأكل البطيخ ثم نظر للسماء وسألني:
- ماذا ترى في السماء؟
أجبته بداهة: أرى النجوم !
- إنك لا ترى شيئا، إني أرى لآلئ كانت على جيد ملاك، قطعت وانتثرت على ثوب سهرة السماء !
- هل أنت عاشق يا مولاي؟
- أنا اعشق روح هذا الكون، أرى بقلب عاشق، وأنت ببطن جائع، فمازلت تراقب هذه البطيخة التي بين يدي !
- يا مولاي قسما بربّ السماء الممطرة، والأشجار المورقة، لا أريد بطيختك بل حكمتك !
اعتدل الحكيم في جلسته، وبدأ يتحدث وكأنه يحدّث نفسه:
اعلم إن الله واحد، والمخلوقات كثرة، وهل تعلم ماذا يفعل مخلوق واحد، الواحد قد يساوي مليون إنسان، ومائة مليون إنسان لا يساوون واحد، وهؤلاء انتم !
واعلم إن العرب ثلاث: مختلفون، ومتخلّفون، ومخلّفون، فالمختلفون قوم يجتمعون، يختلفون على الاتفاق، ويتفقون على الاختلاف، والمتخلّفون قوم يتشابه فيهم الكبير والصغير، العالم والجاهل، يزرعون القبور، وهي زراعة تبور، والمخلّفون قوم لو دعاهم داعي العمل، لتلحّفوا وتوسّدوا الوساد، وما ساد يا بني قوم كانت الوسادة رفيقتهم، واللحاف صديقهم، والغراب دليلهم !
صمت الحكيم واكل من بطيخته، فقلت له: زدني يا مولاي، فحكمتك سحابة ممطرة في صيف قارض ... فأكمل الحكيم:
واعلم أن الوزراء عندكم ثلاث: تأزيم، وتقزيم، وتحزيم، أما التأزيم فهم أساس البلاء، هم وكراسيهم سواء، أما التقزيم فهم ممن يصغّرون الكبائر، ويكبّرون الصغائر، أما التحزيم فلا أعرفهم، ولكني قلتها لزوم القافية !
صمت الحكيم لحظة وأكل بعضا من البطيخ، ورمى قشرتها الى السماء، ولم تسقط - فقد مرّ طائر النورس فوق رأسه وتلاقف بمنقاره قشرة البطيخ - وأكمل الحكيم قائلا:
واعلم يا بني إن النوّاب ثلاث: استجواب، واستحلاب، واستلاب، أما نواب الاستجواب فهم ممّن يقال لهم استجوبوا فيستجوبون، يدفع لهم فيأخذون، أما الاستحلاب فهم الذين يرون البلاد بقرة حلوب، ولبن لا يروب، أما الاستلاب فهم ممن يسرقون الجيوب، مزارعهم في الشمال، وشاليهاتهم في الجنوب !
تعب الحكيم من الكلام وسكت، نظر الى النجوم، وخط على رمال الشاطئ خطا مستقيما، وقال لي:
اعلم إن الخطّ المستقيم، اقصر طريق للوصول بين نقطتين، ولكن ليس أفضلها، فاحذر يا ولدي... صمت قليلا ثم أكمل حديثه:
واعلم يا ولدي أن الناس عندكم ثلاث: خز، وقز، ومرتز، فالخز قوم يجلسون في المقاهي ويخزون خلق الله، والقز قوم هوايتهم القز في المجمّعات وافتتاح المولات، أما المرتز فهم قوم يرتزون في كل ديوان، ومؤتمر، وافتتاح، وصفحة مجتمع !
واعلم يا ولدي أن بلادكم بها ثلاث: دايخ، وبايخ، ونايخ .... فالدايخ حكومتكم، والبايخ مجلسكم، والنايخ تاجركم، وسبب مصيبتكم في كل ذلك يا ولدي، إن هايفكم شايخ !
صمت الحكيم وأكمل أكل البطيخ، فقلت له: مولاي يا سيد الحكمة، ويا جسر يوصلني للحقيقة أكمل .. فردّ عليّ دون أن ينظر الى وجهي: يا فتى دعني وشأني، أوتريدني أن أرشدك الى شيء خير مما قلته لك؟ قلت له: نعم يا سيدي ... قال: إنه أكل البطيخ !
واستمر في أكله للبطيخ، وابتعدت عنه قليلا، وضعت يداي تحت رأسي ونمت على رمال الشاطئ، فاذا بي أرى نجوم السماء، عيون ملائكة تغمز لي، فغمزت لها وابتسمت، ونمت على أصوات أمواج البحر ... وصوت أكل البطيخ!
شكرا للقراءة..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق