الثلاثاء، ٧ أكتوبر ٢٠١٤

علمانية الأخلاق

هل يمكن قيام أخلاق علمانية بمعنى تلك الأخلاق المؤسَّسة على أساس دنيوي لاديني؟ هذا السؤال ربما يكون متأخراً بالنسبة لبعض الناس ممن جرّبوا أخلاقيات أشخاص لا توجد لديهم علاقة حميمة مع الدين، فوجود أخلاق من خارج إطار الدين بالنسبة لهؤلاء هو واقع مشهود. يصبح السؤال لهؤلاء إذن: كيف يمكن التنظير لمثل هذه الأخلاق اللادينية أو ما الذي يدفع شخص غير متدين للإلتزام بمجموعة قيم أو مبادئ نعتبرها راقية؟ و لعل السؤال الأهم من كل هذا بالنسبة لنا هو: حتى لو أثبتنا إمكانية وجود مصدر للأخلاق من خارج إطار الدين، هل يبقى للأخلاق حينئذ أي معنى أو قدسية تدفع حقاً لمواصلة الإلتزام بها؟ 
كان فرويد يعتقد أن المريض النفسي لو عرف أو تنبّه للأسباب اللاواعية لمرضه، فإن ذلك كفيل بشفاءه. كذلك لو عرف الإنسان المتديّن أو تنبّه إلى أن الأخلاق التي يلتزم بها لها جذور بيولوجية و ثقافية، فإن ذلك كفيل باستمرارية إلتزامه بها دون الوقوع في إضطرابات مزمنة حول معناها و مغزاها.
إن مجموعة المبادئ و القيم الأخلاقية التي نلتزم بها كالعدالة و الحب و الوفاء ليست محصورة بنا، حيث بسهولة يمكن ملاحظتها في بقية الأحياء، و قد تصل إلى درجة قريبة من التعقيد في الأحياء القريبة منا. إن في هذا التشابه إشارة واضحة إلى أن الأخلاق موجودة في صميم هيكلنا البيولوجي. الفرق لعله يكمن في أننا أحياء أكثر تعقيدا من الناحية البيولوجية و بالتالي أخلاقنا أكثر تعقيدا، بالإضافة إلى أننا نمتلك وعيا و قدرة على تطوير أخلاقياتنا من خلال ملاحظة الخير و الشر.
الإنسان حيوان إجتماعي و بفضل وعيه يستطيع أن يميُز مصلحته و مصلحة الجماعة التي ينتمي لها، و بالتالي يستطيع الإتفاق مع غيره من بني جنسه حول مجموعة من المبادئ و القيم المفيدة للجميع، و التي بدورها تنتقل من جيل إلى جيل عبر التلقين و التعليم، لتصبح راسخة في الوجدان الفردي و الجمعي، و يتم إعتبارها خطوطا حمراء لا يجوز الإعتداء عليها.
الأخلاق إذن لها جذور بيولوجية و ثقافية، موجودة في صميم هيكلنا البيولوجي، تطورت بسبب وعينا المميز، و تعقّدت بتعقّد حياتنا "الملموسة" و تغيّر ظروفها. جدير بأن أشدد على كلمة "الملموسة" هنا؛ لأننا في حياتنا العادية اليومية و المستقرة لا نسأل عما إذا كانت الأخلاق واجبة في ذاتها كما يسأل الفلاسفة و المشككين، بل نلتزم بها كأي أمر طبيعي نابع من ثقافتنا و تربيتنا و خاصة أدوارنا الإجتماعية كآباء أو أمهات أو أبناء أو أصدقاء أو عشاق أو أزواج. 
 هل هذا التفسير للأخلاق و جذوره يعني ضرورة الإنفصال عن التفسير الديني للأخلاق؟ مما لا شك فيه أن الأديان سواء تلك التي ادّعت ألوهيتها أو تلك التي لم تدّع، جاءت بمجموعة من القيم و المبادئ الأخلاقية و حثّت الإنسان المؤمن للإلتزام بها، و لكن هل كانت تلك المبادئ و القيم خارج إطارها الزمكاني؟ هل كانت خارج سياق الثقافة التي نشأت فيها؟
الأديان مصدر للأخلاق، و لكنها ليست بالضرورة مصدرا مستقلا أو أساسيا، فالأديان تختلف في مبادئها الأخلاقية حتى لو اعترفت ببعضها البعض، و هذا الإختلاف يمكن تفسيره باختلاف الثقافات و البيئات التي نشأت فيها. يوجد في بعض أصول الفقه الإسلامي مثلا أن الأحكام الشرعية تتبع المصلحة، كقاعدة "لا ضرر و لا ضرار"، التي فيها إشارة واضحة إلى أن هذه الأصول تتبع المصالح المتفق عليها في بيئة معينة، و لعله يمكننا تتبع تطور الأخلاقيات الدينية لبعض الديانات عبر العصور و اختلاف الثقافات. أبسط مثال على ذلك إختلاف أخلاقيات المسلم العادي الذي يعيش في هذا العصر، عصر الحداثة و الإنفتاح، عن المسلم العادي الذي عاش قبل ألف سنة، ليس على مستوى التطبيق فحسب بل على مستوى الفكر و النظر أيضاً. إن الأخلاقيات الدينية إذن جاءت مندرجة تحت الأساس البيولوجي و الثقافي و ليست منفصلة عنها. 
كما أشرتُ في البداية، لعله سيصعب على كثيرين التنكّر لواقع وجود أخلاقيات لادينية، و لكنهم دوما سيثيرون مسألة أن الشخص غير المرتبط بالدين أو الإله يمكنه أن يكون صادقا مخلصا محبا، و لكنه لا يمكنه أن يضحّي بحياته من أجل الآخرين أو المبادئ التي يؤمن بها. إن الواقع مرة أخرى يثبت خطأ مثل هذا التصور الغيبي للأخلاق، و لكن قبل ذلك يجب أن نفهم أن قدرة الشخص على التضحية بنفسه من أجل الآخرين ليست خارج سياق التربية و  الثقافة التي ينشأ عليها. إن الأساس لمثل هذه القدرة حتى لو تم تبريره عقلا بالحياة ما بعد الموت مثلا إلا أنه لا يخلو من عاطفة شديدة تم غرسها بالتربية و التعليم أو التلقين.
يقول محمد باقر الصدر في كتابه "فلسفتنا" ص٣٣: "و حتى الألوان الرائعة من الإيثار، التي نشاهدها في الإنسان و نسمع بها عن تاريخه.. تخضع في الحقيقة أيضاً لتلك القوة المحركة الرئيسية: غريزة حب الذات. فالإنسان قد يؤثر ولده أو صديقه على نفسه، و قد يضحّي في سبيل بعض المُثل و القيم.. و لكنه لن يقدم على شيء من هذه البطولات ما لم يحس فيها بلذة خاصة، و منفعة تفوق الخسارة التي تنجم عن إيثاره.. ففي الإنسان استعدادات كثيرة للإلتذاذ بأشياء متنوعة: مادية كالإلتذاذ بالطعام و الشراب و ألوان المتعة الجنسية و ما إليها من اللذائذ المادية. أو معنوية كالإلتذاذ الخلقي و العاطفي، بقيم خلقية أو أليف روحي أو عقيدة معينة، حين يجد الإنسان أن تلك القيم أو ذلك الأليف أو هذه العقيدة جزء من كيانه الخاص.. فبينما نجد أن بعض تلك الإستعدادات تنضج عند الإنسان بصورة طبيعية.. نجد أن ألوانا أخرى منها قد لا تظهر في حياة الإنسان، و تظل تنتظر عوامل التربية التي تساعد على نضجها و تفتّحها..".
مسألة التضحية و الإيثار عند الإنسان المتدين إذن ليست منفصلة عن أساس التربية و الثقافة، كما أنها ليست منفصلة عن الأساس البيولوجي الذي يدفع بعض الأحياء للدفاع عن جماعاتها، و لذلك نجد أن هذه القيم ليست خاصة بالمتدينين، فهناك لادينيين و حتى ملحدين ضحوا بأنفسهم من أجل مبادئهم أو تحملوا مشاق كثيرة خدمة للإنسانية. يحضرني حاليا مثال المجاهد الهندي "بهاجت سينغ" الذي كان من أبرز قادة المقاومة الهندية المسلحة للإستعمار البريطاني، حيث رفض سلمية غاندي و آمن بقوة النار و الحديد لتحرير بلده متأثرا باللينينية. هذا المجاهد الذي يُسمى ب"الشهيد الأعظم" كتب في السجن مقالا بعنوان "لماذا أنا ملحد". لم يمنعه إلحاده من التضحية بنفسه من أجل الوطن، كما لم يقده إيمانه بالمقاومة المسلحة للخروج عن جادة الصواب، حيث وضع خطة محكمة لإيصال مظلومية شعبه للخارج و إثبات زيف القضاء الإستعماري بتسليم نفسه طوعا بعد إلقاء قنابل لم تؤذ أحدا في إحدى قاعات المحكمة. كان هذا المجاهد منذ صغره يرى و يسمع عن المقاومة و الإستعمار و تمت تربيته على مباديء الوطن و التضحية من أجله.
شكرًا للقراءة 
علي داود اللواتي
___________________________________________________
* هذا المقال مستلهم من كتاب "الفاكهة المحرمة" لبول كيرتز

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق