الجمعة، ٢٩ أكتوبر ٢٠١٠

كلمة في الأخلاق الاجتماعية

كلمة في الأخلاق الاجتماعية
بقلم: علي داود اللواتي

الأخلاق والثقافة

هل الأخلاق لها ارتباط بثقافة صاحبها أم لا؟ هل المتحضّر وساكن المدينة يتصرّف بطريقة مختلفة عن البدويّ الذي يعيش في الصّحراء؟

ربّما يكون مخالفا للواقع الملموس انكار هذه الحقيقة، حقيقة ارتباط الأخلاق وتصرّفات الانسان بثقافته وظروفه والبيئة التي يعيش فيها. فالبدوي الذي يعيش في الصّحراء مع قبيلته يختلف عن المتحضّر الذي يعيش في مدينة المؤسّسات ونظام المؤسّسات.

البدوي يعتبر كل شؤون القبيلة شؤونه، وكل مشاكلها مشاكله، وهو معها في الحرب والسّلم، ولذلك قال قائلهم قديما: وما أنا الا من غزيّة ان غزت أغزو، وان ترشد غزيّة أرشد.

وللطّبيعة الصحرواية القاسية يكوّن هذا البدوي معنى خاص به للرجولة والخنوثة. فالرجولة عنده تعني القوّة وحدّ السّيف، فهو لا يرى في نهب القبائل الأخرى وسبي أعراضها وقتل رجالها، لأجل العشب والماء، او أيّ سبب آخر، تناقضا مع مفهوم الرجولة. كما يرى أنّ اكرام الضيف والعفو عند المقدرة من مصاديق الرجولة والقوّة. أمّا الخنوثة عند البدوي فهي في مثل مجالسة النساء والاستسلام للعدوّ وعدم طلب الثأر حتّى الموت.

أمّا المتحضّر المؤسّساتي فعنده أمور شخصيّة لا يرضى أن يتدخّل فيها أحد، وعنده أمور عامّة هي أمور النّظام أو الدّولة، فهو ليس كالبدويّ كتاب مفتوح لكلّ أفراد النّظام الذي ينتمي اليه.

ومفهوم الرجولة والخنوثة عند هذا المتحضّر ينقلب رأسا على عقب، فهو ولاستقراره وثباته في محلّ واحد يرى أن الرّجولة في الابداع والاختراع والعمل والفنّ، ويرى الخنوثة في مثل قيد حرّية التّعبير عن الرأي.

البدويّ يقول: صوتك لا يسمع الا اذا رفعته، والمتحضّر يقول: رفع الصّوت دليل على ضعف الحجّة.

وهذا الاختلاف، اختلاف البدوي والمتحضّر في الأخلاق، يمكن أن نشاهده بين أطراف أخرى. مثلا يمكن أن نشاهده بين قبيلة زيد وقبيلة عمرو في ولاية ما، ويمكن أن نشاهده بين الشّيعي والسّني كذلك.

الاخلاق والتّمذهب الباطل

أذكر في الصفّ السادس الابتدائي، كنت أمشي في الفسحة مع أحد أصدقائي الاباضيين، والتقيت بأحد الأصدقاء من حارتي، وكان في مثل سنّي تقريبا، يعني 12 سنة، فوقفت لأكالمه بضع دقائق، فهمس في أذني: هل هذا الذي تمشي معه عجمي؟ وطبعا هو كان يقصد: هل هو شيعيّ؟

ومرّة أخرى وبعد أن كبرنا، وعمّرنا حوالي 19 سنة، حدثت لي حادثة مشابهة، ومع نفس هذا الصّديق. حيث كنّا راجعين من المدرسة في باص أحد الأساتذة الأباضيين (المطاوعة) في شهر رمضان، والذي وقّف باصه قرب احدى المحلات ونزل ليشتري شيئا، وبينما هو كذلك دار حديث بيني وبين صديقي هذا، وكان من ضمن ما قاله لي: لايغرّنّك أشكال هؤلاء، فهم يبطنون غير ما يظهرون.

ولا أريد بذكر هذين المثالين ان أتّهم صديقي هذا بالتّمذهب الباطل المتعمّد، ولكنّه تمذهب باطل وان لم يكن متعمّدا.

من احدى بؤس التّمذهب: ضياع الأخلاق!. ولعلّها البائسة الرئيسيّة وكل البؤس الأخرى فروع هذه البائسة. فالشّيعي لا يثق الاّ في الشّيعي، ويعتبر أفراد بقيّة المذاهب وخاصّة (المطاوعة) منهم يبطنون غير ما يظهرون، فيقوم هو بمثل ما يعتقد أنهم يقومون به، فيظهر غير ما يبطن، وتتكوّن بالتّالي عنده شخصيّتين، كالمنافق، يقابل بأحداهما أبناء مذهبه، ويواجه بالأخرى أبناء المذاهب الأخرى.

كما أنّ من احدى مصاديق النفاق الناتج من التمذهب، محاولة كل فرد جذب الآخر الى مذهبه بالمراوغة واظهار الودّ والتسامح وعدم التعصّب، والباس هذه الطّريقة ثوب الشرعيّة بقاعدة: الغاية تبرّر الوسيلة، فأنا لا أريد له الا الخير، والخير كلّه موجود في مذهبي.

يقول الدكتور علي الوردي: "ان التعصّب المذهبي والطائفيّة – التي هي من مصاديق التّمذهب الباطل - والتعصّب البدويّ هما في الحقيقة وجهان لعملة واحدة، فالطائفيّة ليست دينا انّما هي نوع من الانتماء القبليّ الى مذهب أو شخص معيّن، والفرد الطّائفيّ حين يتعصّب لمذهبه لا يهتمّ بما في المذهب من مباديء خلقيّة او روحيّة فذلك أمر خارج عن نطاق تفكيره، وكلّ ما يهتمّ به ما يوحي به التعصّب من ولاء لجماعته وعدائه لغيرهم، انّه بعبارة أخرى ينظر الى طائفته كما ينظر البدويّ الى قبيلته".

تناقض الأخلاق

من عجائب الدّهر حقيقة أن تجد أحدهم يريد أن يثبت بكلّ الوسائل أن الاسلام يحثّ على لعن المخالف بل وسبّه وشتمه وغيبته، وانه يأخذ بقاعدة ردّ السيئة بالسيئة، وعندما تسأل يقال لك: لا كرامة للخصم ولا أخلاق في المناظرة.


ومن عجائب الدّهر أيضا أن تجد احدهم يبكي على الحسين، ذاك الحسين الذي بكى لأنّ أعدائه سيدخلون النار بسببه، ذاك الحسين الذي ورأيتك النّفس الكبيرة لم تكن حتّى على من قاتلوك حقودا، تجده لا يتردّد في استخدام الأوصاف النّابية والتكفيريّة والتهويديّة والجارحة بشكل مباشر أو غير مباشر وغيرها عندما يتعرّض هو أو مذهبه الى كلمة سيّئة من وجهة نظره. والأعجب من هذا أن تجده في الأوقات الأخرى خلوقا مطيعا لله ورسوله وأئمّة الهدى.


انّ هذا التناقض الخلقي – وغيره كالنفاق الذي ذكرناه في الفقرة السابقة - نراه واضحا جدّا عندما نتأمّل في أنفسنا بموضوعيّة وحياديّة، ولكنّه لا يعتبره أصحابه تناقضا بل هو يندرج عندهم في قائمة الأخلاق الحميدة، فالدّفاع عن النفس حقّ مطلق وشرعيّ، والدّفاع عن المذهب والبراءة من أعداء الله ورسوله ولعنهم واجب اسلامي.


يوجد في المنطق أنّ الجهل على نوعين: جهل بسيط وجهل مركّب. الجهل البسيط هو أن يجهل المرء شيئا ويعلم أنّه يجهله. أمّاّ الجهل المركّب فهو أن يجهل المرء شيئا ولا يعلم أنّه يجهله، بل العكس يعتقد أنّه يعلمه. يعني في الجهل البسيط يوجد عندنا جهل واحد فقط وهو الجهل بالشيء، ولكن في الجهل المركّب يوجد عندنا جهلان: جهل بالشيء وجهل بجهل ذلك الشيء. ولعمري لا يوجد أخطر على الأمّة من أفرادها المخلصين لها الجاهلين لغاياتها ومقاصدها بالجهل المركّب.


اذا لم نشبّه هذا التمذهب بالتعصّب البدوي، فبماذا نشبّهه، بل ماذا نسمّه؟


ولكن لماذا هذا التناقض؟ ماهو سببه؟


عندنا هنا مشكلتين:

الأولى: التربية التمييزية (اللاديمقراطيّة). فنحن نربّي أبناءنا بطريق مباشر أو غير مباشر على التمييز السلبي (غير الديمقراطي). يعني نربّيهم – بطريق مباشر أو غير مباشر – على أنّهم الوحيدون المبشّرون بالجنّة او على الأقل المسهّل دخولهم الجنّة، وأنّهم الوحيدون الذين يتميّزون بالسّير على الصّراط المستقيم، وهدى ربّ العالمين، وكلّ من سواهم بعيدون كلّ البعد عن طريق الحقّ، وذلك كلّه – في بعض الأحيان - عن طريق جملة من الاستدلالات التي تزيد من سبات عقولهم. تماما كما يفعل البدوي القبلي مع أولاده، حيث يربّي فيهم الولاء للقبيلة وشرف القبيلة والافتخار بها.


ولكنّنا في نفس الوقت لا ننسى أن نربّيهم على بعض الصفات الحسنة: كالصّدق والوفاء وما الى ذلك، والنتيجة: مركّب بشري يجمع المتناقضين: الأخلاق واللاأخلاق في ذهن واحد وهو لا يدري. فينشأ أبناءنا وقد تجذّرت النزعة المذهبيّة السلبيّة في نفوسهم، فيندفعون لاشعوريّا عندما يتعرّض مذهبهم لأية كلمة جارحة أو غيرها مثلما يندفع البدوي لاشعوريا بسيفه عندما يتعرّض احدهم لقبيلته وشرفها

الثانية: الظروف الحياتيّة. فأولياء الله عندنا لا يعطون الاهتمام الكافي لعنصر الظروف وتعقيدات الحياة المعاصرة، ويكتفون بالنصائح والحث على العزيمة والارادة، ويعتقدون أنهما كافيتان لتغيير أخلاق أي شخص، وهم عندما يجدون شخصا يفشل ويفشل في تغيير نفسه يعزون سبب ذلك الى ضعف ارادته وعزيمته، لتزداد محنة المسكين.


لايمكن بأي حال أن تطلب من فقير أو ميسور الحال – او على الأقل كل فقير وكل ميسور الحال - أن يمشي على طريقة النبي محمد والامام علي، في دنيا المصالح المادّية والطبقيّة والرشوة والواسطات، لأنه لو عاش كما نطالبه لمات في يومين، ولعمري صدق أمير المؤمنين عندما قال: لم يبق لي الحقّ من صديق


ان "اولياء الله المخلصين" يعتقدون أن الانسان كلّما منع نفسه من الأفعال السيّئة، فانّه بعد فترة ستتكوّن عنده ملكة ويصبح أوتوماتيكيّا لا يفكّر في اقتراف ذلك الفعل السّيء، وهذا في الحقيقة ليس امرا خاطئا تماما، ولكنّه أيضا ليس أمرا صحيحا تماما.


فتعقيدات الحياة والاختلاط مع مختلف الأصناف تبني عقد نفسيّة بدل الملكات في كثير من الأحيان عندما يكبت الانسان رغباته. فتجد الشخص يريد أن يردّ على من يستهزيء به، ولكنّه يمسك نفسه، وبدل أن يتحوّل هذا المسك الى ملكة ليصدر اوتوماتيكيا فيما بعد، يتحوّل عند الكثيرين الى عقدة نفسيّة، وعندما تزداد حدّة هذه العقدة، ينفجر صاحبها لاشعوريّا فيتلفّظ أو يفعل ما هو أسوء بكثير من الذي كان يمنع نفسه منه، ليظهر التناقض في أخلاقه

ماهو الحل؟

يقول الدكتور علي الوردي في احدى كتبه - والذي كان الملهم في هذه المقالة -: "يحدّثنا الأستاذ حليم نجار في كتابه (تراثنا الاجتماعي وأثره في الزراعة) عن قرية صغيرة قرب معرة النعمان في سوريا أنّ الفلاحين فيها يملكون الأرض ويستغلّونها لأنفسهم، أي أنّ الملكيّة الصّغيرة شائعة فيها، بينما القرى المجاورة لها تعيش تحت نظام الاقطاع. يقول الأستاذ نجار ان أخلاق تلك القرية تستلفت النظر حيث يتصف أهلها بعزة النفس وكرم الخلق وصدق المعاملة بالاضافة الى النشاط والمثابرة والطموح. أمّا سكّان القرى المجاورة الذين لا يختلفون في دينهم او علمهم أو جنسهم عن أهل تلك القرية فأخلاقهم تناقض تلك التي ذكرناها.


اننا لا نستطيع اصلاح اخلاق الناس عن طريق النصائح والمواعظ – على الأقل فقط - على منوال ما كان القدماء يفعلون قديما. الاخلاق وليدة الظروف الاجتماعيّة التي تحيط بها. وما لم تتغيّر تلك الظروف فانّنا لا نأمل أن تتغيّر الأخلاق كما نهوى. وبهذا يصدق قول القائل: غيّر معيشة المرء تتغيّر أخلاقه".


لنعوّد الناس على التفكير الديمقراطي بخلق أجواء ديمقراطيّة قدر المستطاع، وحينئذ سنلاحظ أن ردّ السيئة سيكون بالعقلانية والهدوء. ولنغيّر ظروف الحياة السلبيّة قدر المستطاع، وحينئذ سنلاحظ كيف تنتشر الملكات الحميدة التي نريدها



شكرا لقراءة المقال

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق