رؤية في فكر الشهيد مطهري: الحرية الفكرية والموقف من الرأي الآخر
بقلم: خالد توفيق
اخذنا النصوص جميعها من كتب الشهيد مطهري، و من ثلاث دراسات نشرتها الدوريات الفارسيه حول فكره.
المصدر: الوحدة العدد 191
بقلم: خالد توفيق
اخذنا النصوص جميعها من كتب الشهيد مطهري، و من ثلاث دراسات نشرتها الدوريات الفارسيه حول فكره.
المصدر: الوحدة العدد 191
يذهب الشهيد مطهري في واحدة من أركان مشروعه الفكري الاحيائي الى أن الفكر الاسلامي لا يمكن أن يمتد بشكل صحي بين الناس إلاّ من خلال المواجهة المفتوحة مع ضروب الفكر الآخر.
واقعة دالة
نبدأ بواقعة لها دلالة. نعرف جميعاً أن الشهيد مرتضى مطهري مكث مدة نيّفت على العشرين عاماً وهو يشتغل بالتدريس في كلية الالهيات والمعارف الاسلامية استاذاً للفلسفة والمنطق والفقه (1376 ـ 1398 هـ)، وقد انتبه قبل بضعة سنوات من انتصار الثورة الاسلامية الى أن أحد الاساتذة يروّج في كليه «الالهيات» للفلسفة المادية، ويقوم بالدعاية للمادية الديالكتيكية بين الطلاب، ضد الفلسفة الاسلامية.
أثار تصرّف الاستاذ هذا ردود فعل الطلبة فتأزمت الاجواء حتى كادت تخّل بالجو الدراسي، فما كان من الشهيد مطهري وهو يرأس قسم الفلسفة في كلية الالهيات والمعارف الاسلامية إلا أن بعث برسالة رسمية الى الهيئة العلمية طالباً فيها تأسيس كرسي للمادية الديالكتيكية في هذه الكلية بالذات ـ كلية الالهيات ـ وأكدت: «ضرورة أن يضطلع استاذ مؤمن بالمادية الديالكتيكية بتدريس المادة» كما يقول مطهري نصاً والذي عبر عن هذه الرغبة في مكان آخر بنص قوله: «لقد كتبت قبل اعوام، كتابا الى مجلس ادارة هذه الكلية و نبهت فيه الى ان كلية الالهيات هي الكلية الوحيدة التي لها صلاحية تخصيص كرسي لتدريس الماركسية، و لكن يجب ان لا يقوم استاذ مسلم بتدريسها، و انما استاذ يتفهم الماركسية حقاً، و يؤمن بها حقاً، و لا يؤمن بالله حقاً .. يجب إلا يخطر على بال احد بأن الماركسية يجب الاّ تدرّس في كلية الالهيات. بالعكس يجب ان تدرّس علي يد استاذ مؤمن و ملتزم بها، ثم يأتي دورنا لنقول ما لدينا. و نعرض منطقنا. و لا يرغم احد على قبول هذا المنطق».
ارجو ان ننتبه جيداً لمواصفات الاستاذ المطلوب لتدريس المادية الديالكتيكية، فالشهيد مطهري لا يريده ان يكون عارفاً بهذه الفلسفة مختصاً بها علمياً و حسب و انما ايضاً ان يكون مؤمناً بها.
ولكن لماذا؟ إلا يعدّ هذا الاسلوب بنظر البعض بأنه ضرب من ضروب الدعاية لفكر الضلال؛ بل و قد يحسبه بعض السطحيين تضييعاً للإسلام و الشباب؟
يذهب الشهيد مطهري في واحدة من اركان مشروعه الفكري الاحيائي الى ان الفكر الاسلامي لا يمكن ان يمتد بشكل صحي بين الناس و بين فئات الشباب، و المتعلمين و المثقفين بالخصوص، الاّ من خلال المواجهه المفتوحة مع ضروب الفكر الاخر. و يؤمن الى جوار ذلك ان فتح مجال الحرية للفكر الآخر، سيجعل هذا الفكر يظهر في حركة الواقع و بين المثقفين بحجمه الحقيقي. و اذا كنّا نكررّ القول ان الاسلام قوي و فكرة يمتلك مؤهلات مقارعة الفكر الآخر اياً كان مشربه. فان الواقع هو الذي سيتحوّل الى معيار للحكم على اهلية الفكر الحيوي (لا نقول محتواه فلمحتوى الفكر معايير اخرى) لنهضة المجتمع. و حينئذ سيتحدّد الفكر الآخر ليس من خلال القمع و الاضطهاد، و اسباغ الهالة عليه عبر جرّه الى السرية و الكتمان، و انما من خلال منحه الحرية الكاملة في التعبير عن نفسه بصيغ علنية و بمنهج استدلالي برهاني.
على هذه الارضية يهتف مطهري برواد الفكر الآخر، في محاضرة القاها بعنوان «حرية الفكر و حرية الرأي»: «اني اعلن لكل الاصدقاء من غير الاسلاميين، ان التفكير في ظل الاسلام امر حرّ، فكروا كما تشاؤون، و اعلنوا عن آرائكم الحقيقية حقاً، اكتبوا كيفما يروق لكم، فلا احد سيحول دون ذلك».
بعد ان ينتهي مطهري من ذكر هذه الحادثة خلال محاضرة القاها بمسجد «الجواد» بالعاصمة طهران في شهر آذار / 1979؛ اي اثناء احتدام الصراع بين التيارات المختلفة غداة انتصار الثورة الاسلامية، بغية الرسو على تقنين واضح للحياة الفكرية والثقافية في البلد، وطبيعة العلاقة التي يجب ان تسود بين الاتجاهات الفكرية الاسلامية وغير الاسلامية، يعلق عليها بالنص: «هذا هو الاسلوب الصحيح لمواجهة المسألة. اما اذا اراد شخص ان يؤثر على الطلبة السذّج و ضئيلي الثقافة، بالدعاية بينهم خفية و عن طريق الاغواء و الخداع فهذا ما لا يجوز. و قد اقترحت على ذلك الاستاذ مراراً بأن يبادلني آراءه بدلاً من عرضها على فئة من الطلبة، و قلت له دعنا نتبادل الآراء امام الطلبة انفسهم، او امام عدد اكثر من الحضار اذا رغبت بذلك، بل يمكن توجيه الدعوة الى اساتذة و طلبة الجامعات الاخرى لنتبادل الآراء في جلسة عامة يحضرها آلاف الاشخاص و نتناضر في الموضوع. و قلت له كذلك، بالرغم من انني لست مستعداً بأي وجه من الوجوه ان اتحدّث عبر الاذاعة و التلفزيون (وقد كان ذلك في عهد بهلوي) بيد اني مستعد ان اناضرك في برنامج اذاعي او تلفزيوني».
ثم اعقب ذلك بقوله نصاً: «و برأيي ان هذا هو السبيل الوحيد لمواجهه الآراء المعارضة. اما اذا اردنا الوقوف حيال هذه الافكار، فنكون قد عرضنا الاسلام و الجمهورية الاسلامية للهزيمة و الانكسار. طبيعي ان مصراع الافكار و دخولها بمعترك فيما بينها، هو غير الاغواء و الخداع».
حرية الفكر أم حرية التآمر؟
الصورة الآنفة تبقى مجزوءة غير متكاملة لو اغلفنا الاشارة الى الابعاد المكمّلة في مبدأ حرية الرأي و الفكر في الدولة الاسلامية؛ و الابعاد المكمّلة في موقف الشهيد مطهري، هي:
اولاً: حرية الفكر الآخر لا تعني حرية التآمر، فالتآمر ممنوع في كيان الدولة الاسلامية، و ما هو مباح عرض الافكار و الاستدلال عليها. يقول مطهري في ضمان حرية ليس الاتجاهات الفكرية غير الاسلامية وحدها، بل و حرية الاحزاب غير الاسلامية ايضاً، و لكن عدم التآمر: «الاحزاب ستكون حرّة في ظل الحكومة الاسلامية، و سيتمتع كل حزب بالحرية، حتى لو كانت له افكار غير اسلامية، و لكننا سوف لن نسمح للتآمر و الخداع و التمويه».
وكمثال علي هذا التمييز نقتبسه من الاستاذ مطهري نفسه؛ يرى ان الاسلامي حر (يتحدث ابان احداث الثورة) في ان يعلن الجمهورية الاسلامية كهدف لحركته الثورية، و في المساق نفسه فان الماركسي حرّ في ان يعلن عن شعار الدولة التي يرغب بها. و في اطار ذلك، فان من حق الاسلامي ان يرفع صورة قائده الامام الخميني، تماماً كما من حق الماركسي ان يرفع صورة لينين. اما الخداع و النفاق فهما يبدو ان حين يسير الماركسي وراء الاتجاه الاسلامي، و يرفع صور الامام الخميني ليحتمي بها نفاقاً و يتكتم على حقيقة متبنياته، و بنص مطهري: «ان حرية ابداء الرأي هي اعلان ما تعتقدون به حقاً؛ ان من تؤمنون به هو لينين، طيب! ارفعوا اذن صورته، انني اسألكم، لم ترفعون صورة امامنا؟ لم الكذب؟ لم المرواغة؟ لم الخداع؟ يجب الاّ نخلط بين حرية الفكر و حرية المراوغة و النفاق و التآمر».
وفي السياق نفسه، يقول: «مادمتم لا تؤمنون بآية الله الخميني، وما دمتم تقولون في اوساطكم انكم ستكونون معه حتى المرحلة الفلانية ثم تعلنون النضال ضده، لم اذن ترفعون صورة؟ انه يطالب بالجمهورية الاسلامية و يعلن رأيه بصراحة. فلم لا تعلنون رأيكم بصراحة؟».
بين حرية الفكر و حرية العقيدة
ثانياً: من العناصر التي تكمّل رؤية مطهري حول الموضوع، هو التمييز الذي يقيمه بين حرية الفكر و ما يطلق عليها حرية الجمود الفكري. فبقدر ما تكون الاولي مطلوبة و عنصراً لا غني عنه في حركة الاحياء و اسس النهضة فان الثانية مرفوضة. و يبدو لنا ان ما يعنيه بالجمود الفكري هو تدخل السلطة في عالم الافكار و تبنيها لاتجاه فكري او منهجي معين، ثم دفع الناس قسراً و توجيههم عنوة نحو ذاك الاتجاه. كما حصل في تأريخ المسلمين من تسويق جهاز السلطة الاموية للفكر الارجائي، و العباسية للفكر الاشعري، و السعودية للوهابي، و سلطة الدول الاشتراكية (سابقاً) للماركسية و هكذا، و قبول الاتجاه الفكري لحماية السلطة السياسية و ارتمائه بأحضانها، هو دليل برأي مطهري على عدم ايمان هذا الفكر و اصحابه بالحرية الفكرية؛ بل و عدم ثقتهم بأنفسهم و ايمانهم بفكرهم. يقول في هذا المضمار: «فكل مدرسة لا تؤمن بنفسها و لا تعتقد بمبادئها تقف دون حرية الفكر، و دون حرية التفكير. و هذه المدارس تقوم لا مناص بتأطير المجتمع و حصره داخل دائرة فكرية خاصة، و الوقوف حيال نمو افكارهم، و هذا ما نراه اليوم في الدول الشيوعية». و اذا كان مطهري يهاجم الجمود الفكري لصالح الحرية الفكرية، فيجب ان نعرف بوضوح ان دعوته لحرية الفكر في اطار الممارسة الاسلامية و في نطاق الرأي الآخر، لا تأتي علي حساب الاستقلال الفكري للأمة؛ مثلما ان الاستقلال الفكري يجب ان لا يتحول الى ذريعة للجمود. فنحن اذن امام مقولات ثلاث، هي: حرية الفكر، الجمود الفكري، الاستقلال الفكري. و مطهري داعية كبير لحرية الفكر، مبارز شجاع للجمود. و هو في الوقت نفسه مع الاستقلال الفكري.
ثالثاً: يقيم مطهري تمييزاً بين حرية الفكر و الرأي، و بين حرية العقيدة، فالإسلام يمنح الانسان الحق الاول في ظل الدولة الاسلامية، اما حرية العقيدة فتخضع لسياق فهم آخر. يقول مميزاً: «ان حرية التفكير و انتخاب الدين هي مسألة. بينما حرية العقيدة هي مسألة اخرى». و في مكان آخر يقول: «هناك تباين بين (حرية الفكر) و (حرية العقيدة)». و الذي يذهب اليه الشهيد مطهري ان الانسان حرّ في الفكر، لان الاخير يخضع الى المنطق و الاستدلال و بالتالي فان المناط في الحرية الفكرية، هو ما يشار على اساس المنطق و الدليل، اما ما يفتقر اليهما فلا معنى للحرية فيه. و بالنسبة للمعتقدات يميّز مطهري فيها بين لونين؛ بين عقائد تقوم على اساس المنطق و الدليل، فالإنسان حر فيها، بما في ذلك حريته في انتخاب الدين الذي يقوده اليه المنطلق و الدليل، و بين عقائد تفتقر الى البناء المنطقي و الاساس البرهاني، و لا تمثل في حياة الانسان الاّ محض صلة نفسية او اهواء يميل الانسان اليها، او «معتقدات» توارثها عن الآباء و الاجداد، أو حاكى فيها الآخرين و مضى عليها مقلداً، متعصباً لها دون ان يكون لها نصيب من المنطق.
في هذه الحال لا يسع الانسان ان يتلفح بحرية الفكر، في تبرير معتقداته التي لا تقوم على اساس، بل ان منطق حرية الفكر يدعو لمهاجمة امثال هذه المعتقدات و الكشف عن خواء مضمونها المنطقي، و افتقادها للتماسك البرهاني.
اذن لا حرية في العقيدة لما لا دليل عليه، و لا حصانة للمعتقدات التي لا تملك اساساً منطقياً. انما يدخل في حياض الحرية الفكرية، و حرية الرأي ماله اساس في المنطق، و قوام في الفكر، و يخضع في منهجه الى الحجة و الدليل.
وما هو مطلوب في اصل الوجود الانساني ان يكون الانسان حراً في تفكيره، محرراً من قيود المعتقدات المتوارثة عن تقليد و محاباة، او عن اثره لقوم و تعصب لعقيدتهم.
يقول مطهري: «الفكر منطق، و الانسان يملك قوة باسم قوة التفكير، بحيث يكون بمقدوره ممارسة الانتخاب على اساس التفكير و المنطق و الاستدلال. اما العقيدة فهي بمثابة الارتباط، و ما يفتقر من العقائد الى الاساس الفكري، يكون اساسه التقليد و التبعية و العادة بل و حتى مزاحمة حرية البشر. و ما نبحثه في مجال الحرية، ليكون البشر احراراً هو التفكير. اما المعتقدات التي ليس لها جذر فكري، فهي فقط عقدة و جمود روحيين، تم توارثهما جيلاً عن جيل. و هذه هي العبودية بعينها. لذلك فان الحرب من اجل القضاء على هذه العقائد، هي في حقيقتها حرب في طريق تحرير البشر و ليست حرباً ضد حرية البشر».
اما من يدافع عن «حرية» المعتقدات التي لا تقوم على اساس منطقي، فهو يدافع عن الركود و التقليد و التعصب، و «الحرية في الركود تساوي حرية سجين في البقاء في السجن، و حرية شخص يبقي مقيداً بقيوده» كما يقول الشهيد مطهري في امتداد النص السابق.
شكرا للقراءة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق