الجمعة، ٢٤ يونيو ٢٠١١

ماهي الفلسفة؟ (الجزء الأول: مدرسة الشك)


ماهي الفلسفة؟ 
الجزء الأول: مدرسة الشكّ.
(فلسفات عصرنا - جان فرانسوا دورتيي)

لا مفرّ من أن نبدأ بالسؤال الذي يفرضه قانون النوع، وهو السؤال الأكثر مرجعيّة ونرجسيّة ممكنة، يقول: "ماهي الفلسفة؟". ينبثق عنه سؤال آخر هو: "ولأي شيء تَصلح؟".

يوجد لهذه الأسئلة من الإجابات بقدر ما يوجد من الفلاسفة. إنّ نظرةً في آفاق تاريخ الفكر تسمح بالتعرّف على ثلاث "وضعيات ومواقف" تعايشت دائما على مرّ الزمن: تنظر الأولى للفلسفة على أنها تفكير نقديّ، وتعزو لها الثانية طموحَ ايجاد الحقيقة النهائيّة، وتقول لنا الثالثة إنّ هدف الفلسفة هو تعليم كيفيّة العيش الحسن.

1 - مدرسة الشك:

أول طريقة في النظر الى الفلسفة هي أن نجعل منها مدرسة للشك. واذا كان هناك من شخصيّة تَعرض هذا التصور بصورة أفضل فهي سقراط، الحكيم المرتاب، الذي حُكِم عليه بالموت وكانت جريمته "ابداء الرأي" كما نقول اليوم.

لنذكّر بالقصّة، وقد جرت وقائعها في أثينا سنة 400 قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام. كانت المدينة الإغريقيّة في تلك الفترة قد استعادت الديمقراطية بعد حقبة من الاستبداد، وكان النظام الديمقراطي والشعبي الهشُّ غير المستقرّ المسكون بالخصومات الداخلية يبحث عن بسط سيطرته. والحال أنّ سقراط كان منذ سنوات كثيرة يقدّم صورة للإنسان المُزعِج، فجرى اتّهامه بالكفر وخصوصا بـ "دفع الشباب الى الإنحراف" عبر دروسه. كان يُؤخَد عليه وراء هذه الاتَهامات في الواقع، نقض أسس الدستور. ألم يُهاجِم سقراط مبدأ اختيار القضاة بالقرعة مُعتبرا هذا الأمر حماقة؟. مناقشة صحّة دين الدولة وأساسه السليم هو تعريض سلطة الديمقراطية الناشئة للخطر. والمفارقة هي أن هذا النظام الديمقراطي الذي ما كاد يُستعاد بعد حقبة من الاستبداد هو نفسه الذي حكم بالموت على الفيلسوف!.

لا تتمثّل طريقة سقراط، التي نقلها إلينا أفلاطون في حواراته، في تخليص حقائق ولا حتى في نقض أطروحات محدِّثيه علَناً. إنّ أسلوبه هو الشكّ في الحقائق المُستخلصَة بطرح سلسلة من الأسئلة المُبلبِلَة. كان يهوى إثارة مُناقضية أمام الشباب الأثيني المثقّف. سأل بروتاغوراس مثلا: ماهي الفضيلة؟ هل هي واحدة أم أنّ هناك أشكالا كثيرة منها؟ هل يُمكن تعليمُها؟. على هذا النحو، وبتساؤل بريء براءةً مُصطنَعَة يدفع محدّثه الى تناقضات (إحراجات)، ثم الى اعتراف بالجهل، ومن ثم الى صياغة جديدة للمسألة. كان سقراط ابنا لقابلة، لذا فإنّ طريقته التوليدية تهدف الى جعل مُحدَثه يضع حمْلَه من الحقائق الموجودة لديه.

لم يتحوّل سقراط عن طريقته أثناء محاكَمته، وعِوض البحث عن خطّ دفاعيّ متواضع راح يبحث عن زعزعة المحلَّفين بشكّه المتواصل. وكانت الإثارة الأخيرة عندما ُسئِل - حسب التّقليد المتّبع - عن العقوبة التي يستحقُّها، فطالب بمنحة مدى الحياة مكافأة له عن التعليم الذي يقوم به!.

لم يكن من شأن سخرية كهذه إلاّ أن تُحنِق محكمة شعبية مُشَكَّلة من "مُحلَّفين": مواطنين مُعيَّنين بالقرعة. وهكذا حُكِم عليه بالإعدام. في كتابه "تقريظ سقراط" يروي أفلاطون أنه (أي سقراط) وهو يُغادر محاكمته مباشرة بعد النّطق بالحكم، التفت نحو قُضاته قائلاً لهم: "لقد حان وقت افتراقنا. أنا كي أموت وأنتم كي تحيون. من منّا فازَ بالقسمة الأفضل؟ الله وحده يعلم ذلك ولا أحد غيره".

إذا نظرنا للأمر من زاوية خاتمة الطّرفين فليس هناك شكّ: فَقَدَ سقراط الحياة لكنه ربح الشّهرة الكونيّة، فقد أصبح رمزَ حرّية الرأي وعنوانَها. وهكذا صار صاحبَ الفلسفة المُعتَبرة تفكيرا حرّاً ونقديا.

والواقع أن سقراط قد دشّن تقليدا طويل المدى في تاريخ الفكر: يَتمثّل هذا التقليد في منهج الشك. الفيلسوف الحقيقيّ ليس هو ذاك الذي يَعرِف، لكنه على العكس، هو ذلك الذي يَطرَح أسئلةً حول معرِفته، هو الذي يَعرِف كيف يُواجِه الشكّ هنا حيث يعتقد العقل الدوغمائي أنّه يمتلك الحقيقة.

يندرج مونتانيي وسؤاله "ماذا أعرف؟" وديكارت و"شكُّه المنهجي" كلاهما ضمن هذا التقليد. في كتاب "خطاب الطريقة" (1637) يؤيِّد ديكارت مبدأ أن فكرةً صحيحةً ينبغي ان تبدأ بالشكّ، متسائلاً كيف لا يستسلم الانسان للإرتياب أمام تعدُّد الآراء السائدة في العالم بخصوص كل شيء؟. يقول لنا ديكارت: كي يكون تفكيرُنا صحيحا ينبغي التخلُّصُ من كل معارفنا المُسبَقة لنُعيد بعد ذلك إنشاء معرفة صلبة انطلاقا من المباديء البسيطة والأكيدة. هذا الشك المنهجي الذي يبدو لنا اليوم علامةَ حكمة بدائيّة كان في الفترة التي صاغه فيها ديكارت عملا ثوريا. إنّه يؤكُّد تحرُّرا إزاء الذهنية الجامدة التي سادت الفِكرَ طوال كلِّ القرون الوسطى التي تُؤسّس المعرفة بناءا على نصوص القدماء.

سيؤَكِّد إيمانويل كانط (1724-1804) على طريقته هو أيضا أنّ مُهمّة الفيلسوف مهمّة "نقديّة". يَشهد على ذلك عنوان كتابه الأساس: "نقد العقل الخالص" (1781). في هذا الكتاب الذي يُعَدُّ أحد روائع الفكر الغربي الكبرى يُؤكّد كانط فكرة أنه قبل التّساؤل حول العالم ينبغي للإنسان التّساؤل بدءا عن قدراته على المعرفة. شُبِّهت إعادة المركزة هذه بـ "ثورة كوبرنيكوسية" في الفلسفة: قبل تأمًّل الواقع ينبغي تأمُّل الفكر. ماهي طاقات الفكر الانساني وحدوه؟ هذا هو موضوع النقد. يَتمثَّل الحل الكانطي في بعض النقاط: لانعرف العالم كما هو، بل كما يستطيع عقلنا تصوّره. حُكمنا محدود بأُطُرِنا العقليّة. ليس مُفيداً في شيء استخلاصه من مجال كفاءاته المحدود. ينبغي ألا نطلب من العقل أكثر مما يَقدِر عليه، ليس أكثر ممّا هو ممكن أن نَطلب من الكفيف أن يعرّف لنا اللون. تلك هي روح "النقديّة الكانطيّة".

هذا التقليد الذي يَعتبرُ الفلسفة فكراً نقديّا نجده مرّة أخرى في القرن العشرين مُتّخِذا أشكالا عدّة. يوكِل لودفيج ويتجونستاين ثم مدرسة فينا للفلسفة مهمّة مراقبة الإستعمال الحسن للّغة: دورُها ليس قول الحقيقة بل الفصل بين الإقتراحات الميتافيزيقية - العميقة والخالية من المعنى - والمقترحات العلمية المتعلّقة بالواقع والحقيقة. في فوضى أخرى للأفكار ينتمي عمل "التفكيك" المُقتَرَح من جاك دريدا الى الإتّجاه نفسه: مهاجمة كلِّ الأنساق النظرية التي تطمح الى الكونية وتبيين ضعف المعارف التي نعتقدها الأحسن تأكيدا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق