الأحد، ٢٦ يونيو ٢٠١١

ماهي الفلسفة؟ (الجزء الثاني: في البحث عن المعرفة النهائية)

ماهي الفلسفة؟ 
الجزء الثاني: في البحث عن المعرفة النهائيّة.
(فلسفات عصرنا - جان فرانسوا دورتيي)
2- في البحث عن المعرفة النهائية:

تحطيمُ الأساطير، حل اليقينيّات وتفكيكُها، الإشارةُ بأصابعنا الى اوهامنا: تلك هي الصورة الأولى لمهنة الفيلسوف، غير أن البعضَ لا يجد نفسه ضمن هذا المشروع. يمكن التفكير في صورة أخرى أكثر طموحاً وعظمة: الفيلسوف هو سيِّد الحقيقة. أليس هو من يستطيع بوضعه ومركزه الفكري الوصول الى "معرفة كاملة" غير ممكنة للسواد الأعظم من الناس؟ معرفة يتمازج فيها الحقيقيُّ والجميلُ والحسن؟ مثل ساحر أو عرَّاف يمكن للفيلسوف أن يمتلك أسرارا نهائية تتعلَّق بالعالم والناس.

يُقدّم لنا أفلاطون صورة كهذه، صورةً لمفكّر يشبه قسًّا لائكيا كبيرا. ينبغي التذكير هنا بأنّ أفلاطون كان ينحدر من عائلة أثينية كبيرة. لم يكن يرى حوله سوى عبيد و"برابرة" أو مواطنين عاديين، ومن ثمّة ما من شكّ في أنّ هذا الأرستقراطي الموهوب كان يرى نفسه منتمياً الى جنس آخر مختلف. توجد نقطة مشتركة بين نظريّته في السياسة و"مذهب الأفكار" الخاص به. في "الجمهوريّة" يشرح لنا هذا المعارضُ الشَّرِس للديمقراطية بأن الشعب لا يستطيع أن يحكُمَ نفسَه بنفسه، فهو بحاجة الى قائد يعرف كيف يميُّز العدلَ من غير العدل والخيرَ من الشرّ والصوابَ من الخطأ. وقد أوضحت له إدانه سقراط من محكمة شعبية كم بإمكان الشّعب أن يَضِلَّ ويفْقدَ البوصلة. بالنسبة لأفلاطون: وحده "ملك-فيلسوف" أو "فيلسوف-ملك" يمكنه حُكم المدينة، ذلك أنه الوحيد الذي يستطيع تحديد الحقيقة. هذا ما نسمّيه اليوم ديكتاتور مثقّف (أو منفتِح).

يجدُ هذا التّصور الأرستقراطيُ للسياسة مُوازِيا له في نظرية الأفكار عند أفلاطون. المواطنون العاديون منجذبون الى الإيمان بالأساطير والخضوع للمعتقدات والآراء الجارية، أما الفيلسوف فهو كالموسيقي أو الهندسي وعالم الرياضيات قادر على الوصول الى الأفكار التجريدية الخالصة والأكثر نقاء، ذلك أنَّ ما نعتقد أنَّه العالم الحقيقي - كل ما يحيط بنا - غير مكتمل ومُنحرف وزائل. كلُّ هذا ما هو الا ظلّ أو صورة مُشوّهة ورجراجة لحقيقة حقيقية واحدة - مقدَّسة، صافية، خالدة - موجودة في عالم الأفكار العلوي. 

صورة أخرى للفلسفة تفهمها على أنها بحث عن الحقيقة المطلقة والراقية نجدها عند مؤلف مثل باروخ سبينوزا (1632-1677). تميزت حياة هذا الفيلسوف الذي عاصر باسكال (1623-1662) وديكارت (1596-1650) أولا بالقطيعة. القطيعة مع الديانة اليهودية، وهو ما كلفه طعنة خنجر من أحد المتعصبين الغاضب من أن شخصا ما بإماكانه الارتداد عن ديانة شعب الله المختار. القطيعة مع أمستردام مسقط رأسه، المدينة التي نفى نفسه منها. القطيعة مع السلطات السياسية لتلك المرحلة. ربما نفهم بصورة أفضل وعلى ضوء هذه الصراعات المتتالية عبارة "الحتمية هي النفي، أو بالأحرى: المنفى حتمية" الماخوذة من كتابه الأخلاق، تبدو وكأنها ترغب في أن تقول بأن الانسان يفرض نفسه بالمعارضة..

المعرفة الفلسفية التي يُسمِّيها "معرفة النوع الثالث" هي بالنسبة له معرفة خاصَّة جدا. فالمعارف تنقسم الى ثلاثة أصناف: معارف النوع الأول وتتمثّل في الإداراك الحسي (أرى، أسمع، أشعر..) وفي الآراء الجارية (وهي المعارف المُتحصَّل عليها بـ "السمع والقول" كما يُخبرنا) وفي التجربة. هذه النماذج من المعرفة جزئيَّة غير مؤكَّدَة ذلك أن حواسنا تُخَطِّئُنا احيانا فالآراء مُتعدِّدة ومُتناقضة، و"تجربة الحياة" خاصَّة بكل واحد منَّا فقط. معرفة النوع الثاني يعطيها لنا العقل وهي تُمارَس في الرياضيات مثلا وهي معرفة موضوعية وكونية شاملة ومُتحرِّرة من الشهوات لكنَّها لا تُعطينا سوى معرفة تجريدية ومفصولة عن العالَم مثلما نجدها في فيزياء غاليليو في تلك الفترة.

وتبقى معرفة النوع الثالث وهي المعرفة التي بإمكان الفيلسوف وحدَه الحصول عليها. إنَّها نوع من الإدراك العام والحدسي يُتَحصَّل عليها في نهاية مسار فكري تدريجي طويل. تسمح بإدراك الأشياء في علاقاتها، في تطوُّرها، في وحدتها. يُفتَرض في هذه النظرة الشاملة "الكلية" للعالَم توفيرُها للصفو والهدوء والسعادة. في هذه اللحظة يعيش الفيلسوف نوعا من الإتحاد مع الله والطبيعة (الله والطبيعة بالنسبة لسبينوزا شيء واحد).

نرغب بطبيعة الحال في السير وراء سبينوزا على طريق السعادة الفلسفية هذا، غير أن المشكلة هي أنَّه يستحيل التعبير عن هذه الحقيقة السامية كتابةً. "معرفة النوع الثالث" تُحَسُّ أكثر ممَّا يُبرهَن عليها. نحصل عليها في نهاية مسار فكري تدريجي طويل وتنتمي الى التجربة الروحية الشخصية. هذا الفناء الفلسفي المُطلق هذا النوع من نشوة الفكر وانعاظه لا يُترجم بكلمات، تماما مثلما لا نستطيع شرح النشوة الجنسية لمن لم يعِشْها. يشرح سبينوزا طريقة الصوفية بشكل يضفي عليها شيئا من العلمانية.

يقترح هيجل (1770-1831) طريقا آخر للوصول الى الحقيقة النهائية غير النشوة الروحية. عاش الفيلسوف الألماني في فترة تميَّزت بالروح التاريخية والتطوّرية. ينبغي للفكر بالنسبة له، أن يمرَّ بطريق طويل وكثير الالتواء ليصل الى "المعرفة المُطلَقَة" التي هي موضوع بحث الفيلسوف وهدفه. النظرة الهيجلية لطريقة الفلسفة هي إذن تطوّرية وموسوعية وتتميّز بالجدل (أي بصراع الأضداد). يرتقي الفكر الى العمومية والشمولية في نهاية سير جَلَد وصبور على طريق مُلتو هو نفسُه طريق كل التّاريخ الإنساني. عليه أن يراجع كلَّ تجارب التاريخ وأخطائه واكتشافاته ومآزقه ضمن ما يشبه ملحمة معرفيةً تقودنا الى حلِّ اللغز النهائي. ويُعتبر كتاب "ظاهراتية العقل" بجزئيه الذي نشره هيجل سنتي 1806/1807 جدارية كبيرة لتاريخ الفكر تُلخِّص مراحل عديدة: الإدراك الحسّي، الشعور بالذات، القدرة العقلية، العقل، وأخيرا "المعرفة النهائية".

في عمل هيجل ما يشبه الجنون: تسجيل كلّ التاريخ الإنساني في إطار سيناريو واضح يبدأ مع بدايات الفكر الإنساني وينتهي الى المعرفة المُطلَقة، أي أنَّنا نكون قد فمهناها... في فكر هيجل. لكنَّ غير المعقول هو أنَّ المؤلِّف نجحَ في اضفاء كثير من الوضوح والتناسق على روايته بغضِّ النظر عمَّا ان لم تكن حقيقية!.

إذا لم يعد باستطاعتنا القبولُ بفلسفة هيجل حرفيا، فان كتاب ظاهراتية العقل ما زال يُقدِّم بعض الفائدة اليوم، فهو يساعدنا بدايةً على فهْمِ أن الفكرَ هو منتوج جماعي يتعلَّق بفترة معيَّنة وبقضاياها. إنَّنا نُفكِّر دائما في إطار ذهنية العصر الذي نعيش فيه، هذا درس أول. الفائدة الثانية تكمُن في رسم "رؤى العالم" التي احسن هيجل وصفَها: قوى الحكمة القديمة وحدودها، الشعور التعس للمسيحية، فتوحات العقل في فترة الأنوار، الطريقة العقلية للعلم.

لنلخِّص: في بحثهم عن الحقيقة انتهج الفلاسفة طُرُقا عدة. يُقدِّم لنا أفلاطون وسبينوزا وهيجل صُورا نموذجية للمفكّر في شكل "باحث عن المطلق". لا يجرُأُ كثير من المفكِّرين اليوم على إعلان الطموحات نفسها. لم يَعُد الزمنُ زمنَ سادة الفِكر وبُناة النُّظُم. ليس بإمكان أحد ادّعاء امتلاك "حجر الفلاسفة" دونما إثارة للسخرية.

ومع هذا توفِّر لنا المحاولاتُ التي جرَت في الماضي شهادة قيِّمة، فهي تصِف السُّبُل التي اعتقد المفكِّرون أنَّهم سيصلون عبرها الى الوصول الى المعرفة النهائية. ولأنَّ التعطُّش الى المُطلَق مُنغرس في أذهان الناس فإن كثيرا ممَّا يدفع يدفع المراهنة على ان محاولات أخرى قد تتبع أفلاطون ومثاليتُه، سبينوزا ومنهجُه الصوفي، هيجل وروحُ النَّسق.. تلك الوضعيات الممكنة التي يستطيع الفكر بواسطتها أن يّشُقَّ الطريقّ أو أن يتيه. يمكن قراءتها باعتبارها رواقا من صُور العقل في بحثه عن الحقيقة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق