الأربعاء، ٢٩ يونيو ٢٠١١

ماهي الفلسفة؟ (الجزء الثالث: الفلسفة فنّ للعيش)


ماهي الفلسفة؟
الجزء الثالث: الفلسفة فَنّ للعيش. 
(فلسفات عصرنا - جان فرانسوا دورتيي)

يتوفُّر للذين يُبقيهم أملُ الوصول الى المعرفة النهائية على شكِّهم، طريق ثالث هو: الفلسفة فنّ للعيش. بدأ هذا الموضوعُ يُصبح هدفا للبحث مع فلاسفة كِبار كالأبيقوريين والرواقيين (أتباع زينون) وفلسفات الشَّرق والنظم الصوفية القديمة التي كانت تدرِّس قواعد الحياة وتمارين روحية كي يسير عليها وجودُها. يُقدِّم لنا الفلاسفة وصفةَ السعادة في أشكال عِدَّة.

يًدعِّمُ أبيقور (341-270 ق.م) الذي نأخذه خطأً على أنَّه داعية الى الإنحراف، فكرة أنَّه علينا كي نبلغ السعادةّ الشخصيةَ أن نُخفِّف احتياجاتنا وأن ندفع بعيدا عنَّا المُتع التافهة والزائفة كالتَّرف والسُّلطة والشُّهرة وأن نبتعد عن الشهوات. شهوة الحبّ نفسُها هي عنده مصدر للألم أكثر منها مصدرا للرِّضا. توجد السعادة إذن في الفضيلة والفضيلةُ في الحكمة. وعلى كلّ حال فقد شكَّل أبيقور حياته على هذا النحو. وفي أثينا التي استقرَّ بها بقي على هامش اضطرابات الفترة التي عاش فيها. أنشأ مدرسةً للفلسفة على قطعةِ أرض اشتراها، هي "مدرسة الحديقة". عاش حياة بسيطة اعتنى فيها بالصداقة والفن والعلوم مُنعزِلا عن الحياة الحافلة للمدينة وعن طموحاته المُفرِطة. كانت مدرستُه شبه زاوية مفتوحة للجميع رجالا ونساء شبابا وشيوخا، أثينيين أو أجانب.

الأبيقورية هي رفض للسباق الجامح نحو المُتع، لكنَّه رفض يختلف عن التقشُّف والزهد. أن يكون الإنسان سعيدا بالنسبة لأبيقور ومُريديه هو أن يختار بين الأساسي والتابع أو الثانوي، بين الطموحات التافهة وتلك المهمَّة حقيقة.

يبغي التَّحكُّم في الشهوات عند الرواقيين أن يكون صارما. تقترح علينا الرواقية تقبُّل ما يحصل لنا، إذ لا يمكن البحث عن المنافع الصَّعبة المنال إلاَّ التسبُّب في شقائنا، وصيغة التقشُّف عندها جذرية فهي تدعو الى الزُّهد التام في خيرات هذا العالم. ينبغي التجرُّد من كلَّ شيء وبلوغُ العوز للوصول الى الخير المُطلَق. نجد طابعا بوذيا في هذه العِظة المتعلّقة بالزهد و"التحكُّم في الذات" بإلفاء الرغبات الذاتيّة.

توجد صيغة أخرى للسعادة في فكرة "تحقيق الذات". يجزم أفلاطون في "أخلاق لنيكوماك" أنَّه لا يمكن للإنسان بلوغ السعادة إلاّ بقيامه بوظيفته الخاصَّة به. ونقول اليوم إنَّ الإنسان لا يكتمل إلاَّ عندما يجدُ طريقَه. "كن كيفما أنت"، "حقِّق ذاتَك"، "تحمَّلْ أعباء حياتك": هذه هي الرسالة العمليّة التي يوجِّهها لنا بعض المُفَكِّرين. لكن كيف نعرف ماهيّتنا؟ ولأيّ شيء وُجِدنا أو نصلُح؟ طُرِح السؤال التالي ذات مرة على إبيكتتوس (حوالي 50-125 ب.م) من احد تلاميذه: "كيف يعرف كلّ منّا ما يتلاءم مع دوره؟" فأجاب قائلا: "هل يعرف الثورُ من تلقاء نفسه كفاءَتَه عندما يخرج عليه أسد؟ أيّ منّا يمتلك هذا النوع من الكفاءة أو القابليّة سيعرف هذا الأمر". بعبارة أخرى لا نستطيع أن نعرف مُسبَقاً ماهيّة طبيعتنا. لا نكتشِف كفاءاتنا وأذواقَنا الحقيقيّة و"طبيعتنا العميقة" الاّ إذا دخلنا المعركة، إذا شرعنا في العمل.

رفض كثير من الفلاسفة إذن الصورة الإرتدادية لسعادة "مُتعِية" تنتُج فقط عن المُتع الشخصية. يرى معظمُهم أنَّ السباق الجامح نحو المُتع الانانية لن يقود في النهاية الاّ الى عدم الرضا. فالسعادة إذن ربَّما توجد في التخفيف وربَّما في الإنتشاء الصوفي. بإمكانها أن تكمن أيضا في هِبة الذات (من أجل الآخرين) كما ستدرِّس ذلك الاخلاقُ المسيحية. والمفارقة عندئذ هي أنَّه لا يمكن العثورُ على السعادة الشخصية الاّ إذا قرَّر الإنسان نسيانَ ذاته بعض الشيء.

وهم السعادة:

يبقى أولئك الذين يرون أن البحث عن السعادة ليس جديرا حقيقة بفيلسوف. فكرة السعادة لدى كانط هي منتوج خيالي وأمل وهمي وسراب فكري. يستقي الإنسانُ اعتبارَه وكرامتَه على كلِّ حال من الواجبات التي عليه القيام بها وليس من البحث عن المُتَع الشخصية.

أكثر سوداوية وتشاؤما من هذا اولئك الذين لا يعتقدون اطلاقا بإمكانيّة وجود السعادة، وهي حالة أرثر شوبنهاور (1788-1860) الانتحاري التشاؤمي السوداوي. في كتابه الكبير"العالم باعتباره إرادة وتصورا" (1818)، يُسجِّل بعنف: "إنَّ أبديّة الآلام هي نفسُها جوهر الحياة (...) الحياةُ بحر مليء بالصخور واللجَج،ولإتصافه بالحيطة والحذر يستطيع الإنسانُ تجنُّبَها ويعرف مع ذلك (...) أنَّه يمشي شيئا فشيئا الى الغرق الكبير والتام الذي لا يمكن تفاديه أو علاجه، وأن شاطئه هو مكان خسارته وموته".

يُدرِّس فردريك نيتشة (1844-1900) بخصوص البحث عن السعادة التشاؤمَ والإحتقارَ نفسيهما. أمَّا معاصِرنا إميل ميشال سيوران فيدفع الى الآخِر بالسخرية من وَهْمِ السعادة. تبدو رؤيتُه المُتقزِّزَةُ والمتشائمةُ من الوضعية الإنسانية في عناوين كتبه: الواضح في الانحلال/التعفُّن، قياسات الكآبة، وحتى: "في مساويء أن يولد الإنسان".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق