قراءة في نظرية "الحداثة والاتجاه المعنوي"
علي داود اللواتي
الأول: المدخل الديني النّصيأي أن نقوّم النظرية وفق الأسس المعرفية التي نؤمن بها، ومنها الكتاب والسنة، باعتبار أن المسلمين يؤمنون بالكتاب والسنة (حسب الفرض). فكما أن ملكيان قوّم الدين على أسس معرفية لا يؤمنون بها، فمن حق المؤمنين أن يقوموا نظريتهم على أسس معرفية يؤمنون بها.وطبق هذا المدخل أعتقد أنهم سيتفقون مع ملكيان على القول: إن هذه النظرية ناقصة. فالقرآن يحوي مئات الآيات الدالة على التوحيد، والتوحيد قضية خبرية حقيقية، ولا يمكن أن نعتبرها من الأمور الرمزية. ثم ما قيمة البعثة أصلاً؟ ألم يكن لدى المشركين آلهة، وكان عندهم رضا باطني؟أضف إلى ذلك أن ملكيان لم يبيّن لنا أن إحدى الوسائل -كالإسلام- أفضل من غيرها -كالمسيحية- في كسب الرضا الباطني، إنما اعتبرها متساوية، سواء على صعيد النظم الاجتماعية، أم على صعيد الدين، أم على صعيد المعرفة الإنسانية. فالأديان عنده في عرض واحد، بل إن الدين وغير الدين عنده يمكن أن يحقق المعنوية، فالإلحاد يحقق المعنوية، وماركس يحققها أيضاً، فمن الطبيعي إذن أن تتنافى هذه الفكرة مع المضمون القرآني، وكل من يعتقد بالقرآن (أو الكتب المقدسة) والنبوة بالمعنى المدرسي لتفسير الدين، من الطبيعي ألَّا ينسجم مع هذا الاتجاه، ويكون هذا المدخل ليس لصالح النظرية.ويجدر بالذكر هنا أن ملكيان لا يهمه هذا المدخل، لأنه يقول لك: إنك تناقش على أساس ميتافيزيقي، اسمه الله والكتاب والنبي والسنة وغير ذلك، وأنا لا أؤمن بذلك من الأصل.فهذا المدخل لا يجدي نفعاً معه، ولا مع الذين يؤمنون بنظريته.
أولا: يجب أن نَفهم كيف ينظر الدكتور ملكيان الى الدّين، وأين يَضع الدّين بالضبط، فشخصيّا حسب ما فَهمت من كتاباته وأفكاره فهو يقول أن العلوم الحديثة أشبعت الكثير من مطالب واحتياجات الانسان من السياسة والاقتصاد والقوانين المدنية وحقوق الانسان وغير ذلك، ولم يبقَ للدّين سوى اشباع الحاجة المعنويّة عند الانسان، والمعنويّة عنده تعني مواجهة العالَم والوجود وحقائقهما بنحو يَكسب به الانسانُ حالةً من البهجة والسعادة والإطمئنان او "الرّضا الباطني"، فقوْل أنّه يُمكن نقْد نظريّة ملكيان التي عَنْوَنها بعنوان (العقلانيّة والمعنويّة) من خلال النّصوص الدينيّة ليس في محلّه - على الأقل عند محاورة ملكيان نفسه.
ثانيا: يقول الكاتب أن الدكتور ملكيان وضع جميع الأديان وحتى الإلحاد في خانة واحدة من حيث أنّها جميعا يُمكن أن تُوفّر الرّضا الباطني أو المعنويّة، وهذا صحيح حسب ما فهمتُ شخصيًّا، فالمعنويّة عند الدكتور ملكيان يُمكن توفيرُها من خلال ثلاث مصادر وهي:
1- النصوص والتعاليم الدينيّة.
2- تعاليم ومسالك العرفاء الشرقيّين أو الغربيّين.
3- بعض المذاهب الانسانيّة والوجوديّة.
أمّا مسألة أن الاسلام يوفّر رضاً باطنيّ أكثر من المسيحيّة مثلا، فبإعتقادي أنَّ هذا الأمر يفتقر الى الفهم الذي سأوضّحه كالتالي:
1- الرّضا الباطني وكما أشرتُ سابقاً يُفسّره ملكيان على أنّه نوع مواجهة مع العالَم والوجود، وهذا النّوع من المواجهة تعني تجربة الأمر المتعالي واللامتناهي المتوفّر في هذه الأديان والاتجاهات جميعها بغضّ النّظر عن طقوسها ورموزها وشكليّاتها وعقائدها، وبالتالي فإنّ هذه الطقوس والشكليّات والشعائر المُختَلَف عليها بين هذه الأديان والإتّجاهات هي فقط بمثابة التفسير لتلك التجربة مع الأمر المتعالي واللامتناهي، وهي بمثابة ممارسة تُمكِّن الأفرادَ من الحصول على نفس التّجربة، فأهمّية هذه الممارسات والشعائر عند ملكيان - حسب ما فهمتُ شخصيًّا - لا تَكْمُن في ذاتِها وإنّما فيما تقدّمه للإنسان من مَنفعة، ويَعتقد بأن هذه الممارسات والشعائر النّابعة من تلك التجربة تَصْطبغ بالثقافة المحلّية لصاحب "التجربة الإبتدائيّة"، وبالتالي: اذا كان مقصود الكاتب بأنّ الشعائر والطقوس المُختلفة توفر معنويات مختلفة ومتفاوتة فهذا لا يُمكن محاورة الدكتور ملكيان على أساسه إلاّ بعد حلّ وتفكيك هذه النقطة.
2- يعتقد الدكتور ملكيان أنّ المَقولات الميتافيزيقيّة التي تدّعيها الأديان غير قابلة لا للاثبات ولا للنفي، وبالتالي فهي جميعًا تندرج ضمن خانة الإمْكان، يعني جميعها مُمكنة، ومن هذه الجهة تتساوى جميع هذه الاديان والاتجاهات، وبالتالي: إذا كان الكاتبُ يَقصد أن العقائدَ المُختلِفة توفّر معنويّات متفاوتة فأيضا يجب أوّلا حلّ وتفكيك هذه النقطة.
وفي اعتقادي انه حتى لو تمّ اثبات عكس ما يَعتقد به ملكيان، فإنّ هذا لن يؤثر على نظريّته. لماذا؟ لأنه يرى حسب التّجربة أن الرّضا الباطني متحقّق عند المؤمنين بجميع الأديان والإتّجاهات، فهناك أشخاص مسيحيّون مثلاً ومعنويّون وانسانيّون الى درجة كبيرة جدًّا، وقد قضوا حياتهم في خدمة البشر، وهناك العرفاء باختلاف توجّهاتم وسلوكيّاتهم يتمتّعون بمعنويّات عالية جدًّا، وبالتالي فان اختلاف الأديان والتوجّهات سواء عقائديّا أو سلوكيًّا ليس هو السبب في تفاوت المعنويات والرّضا الباطني بين البشر، فدعوى أن الاسلام يوفّر رضا باطنيّ أكثر من غيره بحاجة الى تفصيل واستدلال أكثر مع تعريف المقصود من كلمة "الاسلام" بدقّة.
ثانيا: يقول الكاتب أن الدكتور ملكيان وضع جميع الأديان وحتى الإلحاد في خانة واحدة من حيث أنّها جميعا يُمكن أن تُوفّر الرّضا الباطني أو المعنويّة، وهذا صحيح حسب ما فهمتُ شخصيًّا، فالمعنويّة عند الدكتور ملكيان يُمكن توفيرُها من خلال ثلاث مصادر وهي:
1- النصوص والتعاليم الدينيّة.
2- تعاليم ومسالك العرفاء الشرقيّين أو الغربيّين.
3- بعض المذاهب الانسانيّة والوجوديّة.
أمّا مسألة أن الاسلام يوفّر رضاً باطنيّ أكثر من المسيحيّة مثلا، فبإعتقادي أنَّ هذا الأمر يفتقر الى الفهم الذي سأوضّحه كالتالي:
1- الرّضا الباطني وكما أشرتُ سابقاً يُفسّره ملكيان على أنّه نوع مواجهة مع العالَم والوجود، وهذا النّوع من المواجهة تعني تجربة الأمر المتعالي واللامتناهي المتوفّر في هذه الأديان والاتجاهات جميعها بغضّ النّظر عن طقوسها ورموزها وشكليّاتها وعقائدها، وبالتالي فإنّ هذه الطقوس والشكليّات والشعائر المُختَلَف عليها بين هذه الأديان والإتّجاهات هي فقط بمثابة التفسير لتلك التجربة مع الأمر المتعالي واللامتناهي، وهي بمثابة ممارسة تُمكِّن الأفرادَ من الحصول على نفس التّجربة، فأهمّية هذه الممارسات والشعائر عند ملكيان - حسب ما فهمتُ شخصيًّا - لا تَكْمُن في ذاتِها وإنّما فيما تقدّمه للإنسان من مَنفعة، ويَعتقد بأن هذه الممارسات والشعائر النّابعة من تلك التجربة تَصْطبغ بالثقافة المحلّية لصاحب "التجربة الإبتدائيّة"، وبالتالي: اذا كان مقصود الكاتب بأنّ الشعائر والطقوس المُختلفة توفر معنويات مختلفة ومتفاوتة فهذا لا يُمكن محاورة الدكتور ملكيان على أساسه إلاّ بعد حلّ وتفكيك هذه النقطة.
2- يعتقد الدكتور ملكيان أنّ المَقولات الميتافيزيقيّة التي تدّعيها الأديان غير قابلة لا للاثبات ولا للنفي، وبالتالي فهي جميعًا تندرج ضمن خانة الإمْكان، يعني جميعها مُمكنة، ومن هذه الجهة تتساوى جميع هذه الاديان والاتجاهات، وبالتالي: إذا كان الكاتبُ يَقصد أن العقائدَ المُختلِفة توفّر معنويّات متفاوتة فأيضا يجب أوّلا حلّ وتفكيك هذه النقطة.
وفي اعتقادي انه حتى لو تمّ اثبات عكس ما يَعتقد به ملكيان، فإنّ هذا لن يؤثر على نظريّته. لماذا؟ لأنه يرى حسب التّجربة أن الرّضا الباطني متحقّق عند المؤمنين بجميع الأديان والإتّجاهات، فهناك أشخاص مسيحيّون مثلاً ومعنويّون وانسانيّون الى درجة كبيرة جدًّا، وقد قضوا حياتهم في خدمة البشر، وهناك العرفاء باختلاف توجّهاتم وسلوكيّاتهم يتمتّعون بمعنويّات عالية جدًّا، وبالتالي فان اختلاف الأديان والتوجّهات سواء عقائديّا أو سلوكيًّا ليس هو السبب في تفاوت المعنويات والرّضا الباطني بين البشر، فدعوى أن الاسلام يوفّر رضا باطنيّ أكثر من غيره بحاجة الى تفصيل واستدلال أكثر مع تعريف المقصود من كلمة "الاسلام" بدقّة.
الثاني: المدخل المبنائيإن أهم مبنى تقوم عليه هذه النظرية -في رأيي، بل في رأي ملكيان كما صرح بذلك في غير موضع من أبحاثه ودراساته وحواراته- هو عدم وجود دليل في العالم يؤكد أو ينفي وجود الله. وهو ما يسميه إيمانويل كنت[99] بتكافؤ الأدلة[100]، فليست هناك أدلة مهيمنة وأدلة ضعيفة، ولذلك فإن العقل النظري يعجز عن العمل، بسبب هذا التكافؤ، لأنك تأتي بعشرة براهين على وجود الله، فيؤتى لك بأكثر من ذلك على العكس، كما يقول كنت والكانتيون[101].فالعلامة الحلي (ت 726هـ) مثلاً في كتاب «الألفين» يأتي بألف دليل ودليل على إمامة علي بن أبي طالب، فيأتي آخر بألف دليل ودليل على نقضها. فالأدلة إذن كلها متكافئة، ولا يمكن الحصول على الحقيقة في عالم الواقع الخارجي، خصوصاً فيما يرتبط بالميتافيزيقيا.هذا هو المبنى الذي تقوم عليه النظرية، وما دام هو يعتقد بهذا المبنى فلا مشكلة في ذلك، والنظرية مقبولة. فلا يمكن أن يقال له: يلزم من كلامك أن لا فرق بين الملحد والمسلم، لأنه يجيبك: وليكن ذلك. وهذا أشبه بما دار بين علمين من أعلام المعتزلة والأشاعرة، قال المعتزلي للأشعري: يلزم من كلامك أن يكون الله كاذباً، قال الأشعري: وليكن ذلك، لأنني لا أقول بالتحسين والتقبيح العقليين، وإذا كذب الله تعالى فإن كذبه هو عين الحُسن. قال المعتزلي: يلزم من كلامك أن يكون الله ظالماً. قال: وليكن، فما يفعله الله هو عين الحسن، وإن سميته أنت ظلماً، لأنه تقبيح عقلي.هذا هو الحال في النظرية موضع البحث، فمن يبني على الأرضية النسبية في علم المعرفة، وعدم إمكان الوصول في الميتافيزيقيا إلى نتيجة، فمن الطبيعي ألَّا يستفيد من الدين في الجانب الفقهي مثلاً، لأنه مشكوك فيه من الأصل عنده، ولا يستفيد من القراءة التاريخية للدين لأنها مشكوك فيها عنده أيضاً، وهكذا. وعندئذ يلجأ إلى الطرح المعنوي.فأحد أشكال نقد النظرية إنما هو نقد البناء التحتي الذي قامت عليه، لا مناقشة في النظرية ذاتها. فإذا نسفت البناء التحتي جعلت الباحث يضطر إلى التسليم.
لا أتّفق مع الكاتب - مع كامل التواضع - في أن اثبات خطأ الدكتور ملكيان في اعتقاده بعدم امكانيّة اثبات أو نفي المقولات الميتافيزيقيّة يُمكن أن يَنسف بناء نظريّة (العقلانية والمعنوية)، وفي مناقشتي للمدخل الأوّل أَشرتُ الى السّبب، وأضيف هنا شيئا آخرا، وهو: أنّ الدكتور مكليان وضّح - أيضا - أن الحداثة تفرض أسئلة جديدة مختلفة عن الأسئلة التي كان القدماء يبحثون عن أجوبتها. يعني القدماء كانوا يبحثون في الأسئلة التالية: من أين جئت؟ الى أين أسير؟ وماهو الطريق الموصّل بين المبدأ والمصير؟، ولكن الحداثة لا تُعطي أهمّية كبيرة لهذه الأسئلة، وعندها سؤال أساسي واحد وهو: ماذا أفعل؟
وفي اعتقادي يُمكن وضع ما يَقصدُه الدكتور ملكيان في صياغة أخرى وضَّحها هو نفسه في كتاباته، وهي: أن معنى الحياة اليوم - وكما تفرضه الحداثة والتطوّر الفكري والعلمي والتقني - لا يتحدّد بهدف الخِلقَة بحيث أن الانسان يسأل الخالق بأنك عندما خلقتني لماذا خلقتني وبأي هدف خلقتني، فيسير في حياته وفق هدف الخِلقَة، ولا يَتحدّد أيضاً بالبحث عن دور ووظيفة الانسان في العالَم والوجود ككلّ، وإنّما يتحدَّد بقولِ الانسان أنني الآن موجود وأنا أملك هذه الإمكانيّات والقوى، فماذا أفعل بهذه القوى والامكانيّات؟ كيف أُوظِّفها بحيث تُحقِّق لي السّعادة والبَهجة والطمأنينه "في هذا العالم"؟. وبعبارة ثالثة: وكما يُوضّح ملكيان نفسه - أن الانسان الحداثيّ لا يهتم بالآخرة كثيرا، ويريد أن يُحقّق سعادتَه ومَنفعتَه في هذا العالَم، وهذه السّعادة يجب أن تَأخُذ الإتجاه المعنوي بعين الاعتبار أيضا، والا فإنّها لن تكتمل، وسيبقى الانسان المعاصر أو الحداثي يعيش الفراغ الباطني "في هذا العالم".
وفي اعتقادي يُمكن وضع ما يَقصدُه الدكتور ملكيان في صياغة أخرى وضَّحها هو نفسه في كتاباته، وهي: أن معنى الحياة اليوم - وكما تفرضه الحداثة والتطوّر الفكري والعلمي والتقني - لا يتحدّد بهدف الخِلقَة بحيث أن الانسان يسأل الخالق بأنك عندما خلقتني لماذا خلقتني وبأي هدف خلقتني، فيسير في حياته وفق هدف الخِلقَة، ولا يَتحدّد أيضاً بالبحث عن دور ووظيفة الانسان في العالَم والوجود ككلّ، وإنّما يتحدَّد بقولِ الانسان أنني الآن موجود وأنا أملك هذه الإمكانيّات والقوى، فماذا أفعل بهذه القوى والامكانيّات؟ كيف أُوظِّفها بحيث تُحقِّق لي السّعادة والبَهجة والطمأنينه "في هذا العالم"؟. وبعبارة ثالثة: وكما يُوضّح ملكيان نفسه - أن الانسان الحداثيّ لا يهتم بالآخرة كثيرا، ويريد أن يُحقّق سعادتَه ومَنفعتَه في هذا العالَم، وهذه السّعادة يجب أن تَأخُذ الإتجاه المعنوي بعين الاعتبار أيضا، والا فإنّها لن تكتمل، وسيبقى الانسان المعاصر أو الحداثي يعيش الفراغ الباطني "في هذا العالم".
الثالث: المدخل البنائيوهو أن تسلّم معه في المبنى، وتتجاوز النظم الفكرية والميتافيزيقية والمعتقدات الخاصة التي تحملها، وتدخل معه في الحلبة ذاتها التي دخل فيها.وأذكر هنا بعض النماذج المختصرة لأسلط الضوء على هذا الأمر:تشطير الحداثة والمقدس1- يسجل على ملكيان إشكال أساسي فيما يتعلق بتقسيم الحداثة إلى ما يمكن اجتنابه وما لا يمكن اجتنابه، فإنه لم يذكر دليلاً معيناً يثبت أن العناصر التي ذكرها هي التي لا يمكن اجتنابها، إنما افترض افتراضاً عارياً عن الدليل، وصوّر الحداثة بصورة خاصة، ثم قسمها إلى قسمين، فلم يبيّن لنا كيف عرف أن هذا يمكن اجتنابه وذاك لا يمكن؟ فكيف عرف مثلاً أنه لا يمكن اجتناب التعبد في عصر الحداثة، أو اجتناب المقدس؟ ألا يوجد عند الغربيين واليابانيين مقدسات وهم في قمة الحداثة اليوم؟ اللهم إلا إذا أراد ملكيان أن ينسج حداثة نموذجية جديدة.فلم يبيّن لنا المبرر المنطقي لهذا التقسيم، ومن ثم فالمجال مفتوح، ويمكن لأحد أن يقول: لا تنافي بين المقدس والحداثة، نعم، من الممكن أن نتصور التنافي بين الحد الأعلى من المقدس وبين الحداثة، فالمجتمعات التي فيها حد أعلى من المقدس من الممكن أن تتنافى حياتها مع الحداثة، كما في حياة بعض القبائل أو العشائر في العالم. لكن ذلك ليس معناه عدم وجود إمكانية لتقديم مجتمع يؤمن بالحد الأدنى للمقدس وينسجم مع الحداثة.هذه إحدى الثغرات في النظرية، ويمكن أن يكون لديه جواب لم يقدمه لنا. ومن ثم لا يمكن أن نجزم أن الدين بالمفهوم التقليدي لا يجتمع مع الحداثة.ثم إن الدين بالمفهوم التقليدي الذي قدمه لنا إنما هو رتب ومراتب، كما أن المعنوية رتب ومراتب، وكما اعتبر هو أن الفهم المتحجر للدين غير الفهم التقليدي.وبذلك فهو لم يحاول أن يعيد هيكلة الفهم التقليدي للدين، لنرى ما إذا كان من الممكن أن ننقص منه ما ينافي الحداثة، ويبقى على ما هو عليه.ففي مجتمعنا مثلاً يقدس الناس عموماً، علماء الدين، فنقول: المقدس الأردبيلي[102]، ولكن هناك من التقليديين من لا يقدس العلماء، إنما يقدسون النبي والأئمة والصحابة فقط، فلماذا لم نلحظ هذا التفاوت التشكيكي زيادة ونقصاً عند حسابنا لدرجة التعارض بين الحداثة والدين بالفهم التقليدي له؟ فهناك مدارس كثيرة في داخل الفهم التقليدي للدين، ويمكن العثور على مدرسة قادرة على التكيف مع الحداثة. فلم يبذل ملكيان جهداً لتلمس هذا الموضوع، إنما أطلق الكلام، وجعل جميع المدارس على خصام مع الحداثة، لأنها تؤمن بالقداسة.
1- أعتقد أن ما يقصده الدكتور ملكيان من كلمة "الحداثة" هو نفسه ما عَنيْته أنا في موضوع (مشكلة الوعي المُعاصر) بكلمة "الوعي المُعاصر"، ويمكن فهم مصاديق هذا المفهوم من خلال النّظر الى المجتمعات المتقدّمة فكريّا وعلميّا وعمليّا وفي مجالات السياسة والاقتصاد والبحث العلمي وحقوق الانسان وما الى ذلك، ويمكن بنفس الطريقة - أي التجربة - فهم لماذا قسّم الدكتور ملكيان الحداثة الى قسمين: قسم يمكن اجتنابة وقسم لا يمكن اجتنابه، وربّما يكون عند الدكتور ملكيان كلاما آخرا في صدد "الاستدلال" على هذا التقسيم.
2- إنَّ مفهوم القداسة والتعبُّد الذي يقول الدكتور ملكيان أنّه يُعارِض "الحداثة" هو ذاك التعبّد وتلك القداسة التي تتعارض مع:
أولا: العقلانيّة الذي تُطالب بالدّليل في كل شيء.
ثانيا: البراجماتيّة أو الدنيويّة أو العَلْمَنة التي تُريد الآثار النَّافعة في هذا العالَم لا في عالَم آخر.
فبالتّالي يجبُ النَّظر في أنّ قداسة اليابانيّين والغربيّين "الحداثيّين" التي يَذكرُها الكاتبُ هل تتعارض مع هذين المفهومين أم لا.
2- إنَّ مفهوم القداسة والتعبُّد الذي يقول الدكتور ملكيان أنّه يُعارِض "الحداثة" هو ذاك التعبّد وتلك القداسة التي تتعارض مع:
أولا: العقلانيّة الذي تُطالب بالدّليل في كل شيء.
ثانيا: البراجماتيّة أو الدنيويّة أو العَلْمَنة التي تُريد الآثار النَّافعة في هذا العالَم لا في عالَم آخر.
فبالتّالي يجبُ النَّظر في أنّ قداسة اليابانيّين والغربيّين "الحداثيّين" التي يَذكرُها الكاتبُ هل تتعارض مع هذين المفهومين أم لا.
3- ذكر الكاتبُ أن القداسة بالحدّ الأدني لا تتعارض مع الحداثة، ولكن لا هو ولا الدكتور ملكيان وضح هذا الحدّ الأدنى، وحسب اعتقادي فإنّ هذا الحدّ الادنى الذي يقصدُه الدكتور ملكيان هو احترام العلماء والمتخصّصين واعطاءهم مكانة في الحوار والمجتمع، وليس استقبال كل ما يقولونه من دون مُطالبَتِهم بالدّليل، بل أنهم يستحقون هذا الحدّ الادنى من القداسة لأنهم قادرون على مناقشة موضوعات تخصّصاتهم وتقديم استدلالات على مَقولاتهم وعدم فرضهم لآرائهم على الآخرين، وإلا اذا تجاوزوا هذه الأمور فإنَّهم لا يستحقّون حتى ذلك الحدّ الادنى من القداسة.
مفهوم التعبد في الدين2- يعتبر ملكيان أن التعبد أو ما أسميناه بالاحتكام للغير في مقابل الاحتكام للذات هو نقطة الخصام الرئيسة بين الدين التقليدي والحداثة -حسب فهمي لنظريته- وأكثر النقاط، كالمقدس مثلاً، إنما يعود لهذه النقطة[103].وهذه النقطة بحاجة إلى شيء من التحليل، ذلك لأن ملكيان سجل على نفسه نقطة مهمة، وهي أنه يقبل بالتقليد العقلاني، ووضع لذلك ثلاثة مناهج، وهي -كما ذكرنا سابقاً- استقراء التاريخ، والتجربة الشخصية، والرجوع إلى أهل الخبرة، فهناك إذن مجال لقبول التقليد عنده، والتقليد هو عين التعبد في المفهوم الحداثي.فلنأخذ هذه المساحة في قبول التقليد، ونتفحص دائرة الدين، لنرى ما إذا كان في الدين تعبد عقلاني أم لا، أما ملكيان فقد قدم التعبد في الدين بصيغة واحدة، هي التعبد غير العقلاني، ولم يحاول أن يبين لنا أن هناك تعبداً عقلانيًّا في دائرة الدين، وحتى لو حاول ذلك فإنه لا يجعله عنصراً مقوماً للدين، أي أن التعبد العقلاني لا قيمة له في الدين، وأن الدين قائم على التعبد اللاعقلاني، والتسليم المطلق.وهذه النقطة يجب أن نقف عندها قليلاً، لأنها ذات علاقة بأكثر العلوم الإنسانية، ولا بد من دراسة العلاقة بين ما هو عقدي (عقائدي) وتاريخي، أو بين ما هو عقدي وفقهي، أو ما هو عقدي وواقعي.
ذكرتُ أعلاه فهمي الخاص من كتابات الدكتور ملكيان بأنّ التعبُّد الذي يُعارِض الحداثة ويكون عين التقليد المرفوض عنده هو ذاك التعبّد الذي يتعارض مع:
أولا: العقلانية الذي تطالب بالدليل في كل شيء.
ثانيا: البراجماتية أو الدنيوية أو العلمنة التي تريد الآثار النافعة في هذا العالم لا في عالم آخر.
والتقليد الذي يقبلُ به الدكتور ملكيان والذي حدّده في الأمور الثلاث التالية: استقراء التّاريخ، والتجربة الشخصيّة، والرجوع الى المتخصّصين، هذه الامور لا أرى أنها تتعارض مع المفهومين: العقلانيّة والدنيويّة، فحتى رجوع الانسان المعاصر الى طبيب متخصّص لا يَخلو من سُؤَالِه إيَّاه عن طبيعة مرضه، وأعراضه، وآثار الدّواء، وقرائَتِه شخصيًّا لنتائج الفحْص، ومتابعته الشّخصيّة لحالة مرضه، وما الى ذلك، وهذا واضح أنّه جزء من العقلانيّة، وهو لا يذهب الى أيّ طبيب وانّما يذهب الى طبيب ذو سمعة حسنة، يرجو - وحسب مبدأ الدنيويّة - أن ينتفع من دواءه في هذا العالَم لا في عالَم آخر. فيجب أن نعرف - برأيي - أين نُطبِّق العقلانيّة بشكل كامل، وأين نُطبِّق النفعيّة بشكل كامل، وأين نُوازِن بينَهما.
ولكنّ التّقليد الذي يُعارضه ملكيان هو مثل تقليد العامّة للمراجع والفقهاء، فهذا التّقليد وأن كان من باب رجوع الجاهل الى العالِم ألا أنّه لا يُمكن تشبيهُهُ برجوع المريض الى الطّبيب، لأنّه يَفتقرُ الى المُمارسة والطّريقة التي يَتْبَعُها الإنسان المُعاصر والعقليَّة المعاصرة مع الطّبيب، اضافة الى أنّه لا يَهتمّ بمسألة أنّ آثار هذا التّقليد هل متوفّرة أم لا، فعلى المُقلِّد أن يُقَلِّد ويُطَبِّق فتاوى المُجْتَهد سواء كان هو يَستفيد في واقعه ومعيشته من هذه الفتاوى أم لا. يعني لنأخذ مثلا الصّلاة - وكما يُصرِّح ملكيان في احدى كتاباته - أنّ الإنسان الذي يُصلِّي فقط من باب أنَّه أمر الهيّ فهو انسان "غير حداثيّ" وتَعبُّده هذا خلاف "الحداثة" وخلاف "النفعيَّة" في الوعي المعاصر.
أولا: العقلانية الذي تطالب بالدليل في كل شيء.
ثانيا: البراجماتية أو الدنيوية أو العلمنة التي تريد الآثار النافعة في هذا العالم لا في عالم آخر.
والتقليد الذي يقبلُ به الدكتور ملكيان والذي حدّده في الأمور الثلاث التالية: استقراء التّاريخ، والتجربة الشخصيّة، والرجوع الى المتخصّصين، هذه الامور لا أرى أنها تتعارض مع المفهومين: العقلانيّة والدنيويّة، فحتى رجوع الانسان المعاصر الى طبيب متخصّص لا يَخلو من سُؤَالِه إيَّاه عن طبيعة مرضه، وأعراضه، وآثار الدّواء، وقرائَتِه شخصيًّا لنتائج الفحْص، ومتابعته الشّخصيّة لحالة مرضه، وما الى ذلك، وهذا واضح أنّه جزء من العقلانيّة، وهو لا يذهب الى أيّ طبيب وانّما يذهب الى طبيب ذو سمعة حسنة، يرجو - وحسب مبدأ الدنيويّة - أن ينتفع من دواءه في هذا العالَم لا في عالَم آخر. فيجب أن نعرف - برأيي - أين نُطبِّق العقلانيّة بشكل كامل، وأين نُطبِّق النفعيّة بشكل كامل، وأين نُوازِن بينَهما.
ولكنّ التّقليد الذي يُعارضه ملكيان هو مثل تقليد العامّة للمراجع والفقهاء، فهذا التّقليد وأن كان من باب رجوع الجاهل الى العالِم ألا أنّه لا يُمكن تشبيهُهُ برجوع المريض الى الطّبيب، لأنّه يَفتقرُ الى المُمارسة والطّريقة التي يَتْبَعُها الإنسان المُعاصر والعقليَّة المعاصرة مع الطّبيب، اضافة الى أنّه لا يَهتمّ بمسألة أنّ آثار هذا التّقليد هل متوفّرة أم لا، فعلى المُقلِّد أن يُقَلِّد ويُطَبِّق فتاوى المُجْتَهد سواء كان هو يَستفيد في واقعه ومعيشته من هذه الفتاوى أم لا. يعني لنأخذ مثلا الصّلاة - وكما يُصرِّح ملكيان في احدى كتاباته - أنّ الإنسان الذي يُصلِّي فقط من باب أنَّه أمر الهيّ فهو انسان "غير حداثيّ" وتَعبُّده هذا خلاف "الحداثة" وخلاف "النفعيَّة" في الوعي المعاصر.
والسبب في عدم أخذ العلم بالنظريات الأيديولوجية إنما هو عدم إيمانه بها أصلاً، لا أنه يؤمن بها ويعتقد منهجيًّا بحرمة الخلط فيما بينها وبين العلم. فعلماء العلم الحديث لا يؤمنون أن نصوص التوراة[106] والإنجيل[107] مصدر معرفي، فمن الطبيعي أن ينحّوها جانباً في بحثهم العلمي. بدءاً من المفكر اليهودي الهولندي باروخ سبينوزا (ت 1677م) الذي شكك بنُسَخ الكتاب المقدس[108] بالذات التوراة، وتصاعدت عملية التشكيك، واشتهرت نظرية الترميز في الكتب المقدسة المسيحية خصوصاً، وهي أن تلك الكتب ما هي إلا رموز، وليس لها دلالات إخبارية. فمن الطبيعي إذن، أن من لا يؤمن بذلك لا يُقحم الكتاب والسنة، ولا التوراة والتلمود[109]، في أي بحث علمي، لأن ذلك ليس له قيمة معرفية عنده[110].
رغم أني لم أفهم بالضبط لماذا تكلَّم الكاتب عن هذه النقطة (!) الا أنّي أعتقد أنّ ما يقوله هنا من أنَّ العلم الحديث لا يَعترف بالنظريّات الإيدلوجيّة أصلا، ولذلك لا يُدخلُها في أبحاثه، أعتقد أنه صحيح، ولكن هذا ليس هو "خلاصة الموضوع" برأيي، لأن:
أولا: العلوم والمعارف اليوم تَوسَّعت جدًّا، بحيث يَصعُب على الانسان الواحد أن يتخصَّصَ ويَتعمَّق في أكثر من تخصُّص واحد، ويفهم جميع أبعاده، وهذا يعني فصْل العلم عن الدِّين، فاذا وافقت مُعطياتُ العلم مُعطياتَ الدّين وافقت، واذا لم توافق لم توافق.
ثانيا: يوجدُ في التّاريخ الإسلاميّ فلاسفة وعُرفاء ومتكلِّمون لم يَعطوا الأولويَّة للنُّصوص المُقدَّسة مع ايمانِهم بها، فالشّيخ الرئيس ابن سينا مثلا اتّبع الموضوعيّة التامّة في بحث امكانية المَعاد الجِسمانيّ مثلا، وتوصّل الى أنَّه مُحال - حسب ما أذكر - وبالرغم من ذلك يقول بأنَّه ونظراً لإيمانِه بالنُّصوص المُقدَّسة يُؤمن به. ففي اعتقادي ان حصر عدم تدخل النظريات الايديولوجية في العلم الحديث بعدم ايمان العلماء بها أصلا حصر غير مقبول بشكل كامل.
أولا: العلوم والمعارف اليوم تَوسَّعت جدًّا، بحيث يَصعُب على الانسان الواحد أن يتخصَّصَ ويَتعمَّق في أكثر من تخصُّص واحد، ويفهم جميع أبعاده، وهذا يعني فصْل العلم عن الدِّين، فاذا وافقت مُعطياتُ العلم مُعطياتَ الدّين وافقت، واذا لم توافق لم توافق.
ثانيا: يوجدُ في التّاريخ الإسلاميّ فلاسفة وعُرفاء ومتكلِّمون لم يَعطوا الأولويَّة للنُّصوص المُقدَّسة مع ايمانِهم بها، فالشّيخ الرئيس ابن سينا مثلا اتّبع الموضوعيّة التامّة في بحث امكانية المَعاد الجِسمانيّ مثلا، وتوصّل الى أنَّه مُحال - حسب ما أذكر - وبالرغم من ذلك يقول بأنَّه ونظراً لإيمانِه بالنُّصوص المُقدَّسة يُؤمن به. ففي اعتقادي ان حصر عدم تدخل النظريات الايديولوجية في العلم الحديث بعدم ايمان العلماء بها أصلا حصر غير مقبول بشكل كامل.
شكرا للقراءة..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق