الأحد، ٩ مارس ٢٠١٤

حُريّة الإختيار عند إيريش فروم

حُريّة الإختيار عند إيريش فروم
قراءة في كتاب (جوهر الإنسان)

سمعنا أو قرأنا الكثيرَ عن حُرَية الإختيار و الإرادة لدى الإنسان، و هل هو خيّرٌ أو شرّيرٌ في جوهره، و لكنّ كل أو معظم ما قرأناه و سمعناه كان نتاج اللاهوتيين من الفلاسفة و المُتكلّمين، و الذي هو في كثيرٍ من الأحيان إن لم كل عبارة عن تبريراتٍ جدليّة لإيمانٍ مُسبقٍ بالله، و لكنّ الأمر في هذا الكتاب مختلفٌ جدَّا، بل و مثيرٌ أيضاً، فالكاتبُ هنا – وإن كانت لديه ميولٌ دينيّة حسب الظاهر – إلا أنه عالِم نفسٍ كبير، و صاحب تجربةٍ واسعة في علاج المرضى النفسيّين،  إنه الألماني إيريش فروم.

يبدأ فروم كتابه بسؤال أساسي: "هل الإنسانُ ذئبٌ أم خروف؟"، و الذي – في نظره – صيغةٌ خاصةٌ لسؤالٍ شكّل إحدى أكثر المشكلات أساسيّة في الفكر الفلسفي و الديني الغربي: هل الإنسان في جوهره شريرٌ و فاسد، أم أنّه خيّرٌ و كامل؟. يُقررُ فروم قبل الإجابة على هذا السؤال و قبل عرض الحل الخاص به لمشكلة الحُرية أن يُبيّن سيكولوجية أشدّ أشكال التوجيه البشري خطراً و فساداً – أو شرًّا – وهي: حُبّ الموت (النكروفيليا)، النرجسيّة الخبيثة، و التثبيت السّفاحي التّعايشيّ. إنّ أقل ما يُمكن الخروج به من تحليل فروم لهذه الأشكال الثلاث هو الوعي بمدى السلبيّة التي يُمكن أن يذهب إليها الإنسان، متجاوزاً كل المُحرّمات الإجتماعيّة و الطبيعيّة، و مازجاً لكلّ معاني الحياة و الموت في داخله. إنّ كل هذه الأشكال ما هي إلا هروبٌ من المُضُيّ قدُماً في الحياة، و من تحقيق الكيان البشري الكامل، إنّها كما يُسمّيها "نكوصا" مرَضيّا و في أقصى حالاته رُعبا و شراسة. يتساءل فروم: أليس هذه الحالات في أكثر درجاتها تطرفا تؤدي إلى الإعتقاد بالحتميّة و الجبر؟ 

يقرر فروم أنّ جوهر الإنسان ليس "حقيقة" معيّنة اسمها "الخير" أو "الشر" بل "تناقضٌ متجذّر" يحتاج بطبيعته إلى حلولٍ مستمرة، والحل إما في النكوص كما هو الحال في الأمراض العقلية و النفسيّة الشديدة، و إما في التقدم و تحقيق الإنسانية الكاملة. ففي "الإنسان العادي" قوى متناقضة و ميولا متقابلة يمكن أن تؤدي به إلى أي الطريقين. و هو يُركز على "الإنسان العادي" لأنّ بعض الأشخاص يكونون قد تجاوزا كل المراحل و وصلوا إلى نقطة "اللاعودة"، و فقدوا بذلك حريتهم و قدرتهم على الإختيار، فهم مُسيّرون، لا حول و لا قوة لديهم، و قد يتوهّمون أنهم أحرار، و لكنّهم ليسوا أكثر من ألات تُحرّكها دوافع لاواعية. يؤيد فروم بهذه الطريقة إلى درجة كبيرة مذهب "الإختيارية" و هو مذهبٌ لا يقول بالحتميّة، و لا يقول باللاحتميّة أيضا.

يجادلُ فروم أنّ تبريرات القائلين باللاحتميّة إما تتطلب إيمانا مُسبَقا بالله، كما في قول أنّ الإنسان لو لم يكن حُرا لما وضعه الله مسؤولا، و إما تُعبر عن نزعة نفسيّة لعقاب النفس و الأخرين، كما في قول أن الأنسان يَختبر حريته ذاتيا، و إما ناتجة عن تَوهّم الحرية، كما في قول أن وعي الحرية دليلَ وجودها، و عن هذا التبرير الأخير يُشير فروم إلى رأي اسبينوزا في المسألة، و هو أنّ الإنسان يتوهّم الحرية لأنه يعي رغباته، و لكنه لا يعي الدوافع اللاوعية خلف تلك الرغبات، ليتساءل بعد ذلك - و بتعجب - عن عدم تعرض القُدماء لمسألة اللاوعي عند الحديث عن الحرية والإختيار لدى الإنسان.

أمّا الحتميّة، فيكتفي فروم في مجادلتها بالتجربة الشخصية للأفراد، و كسرهم لكل التوقّعات و سلاسل السببيّة. كما يُعبّر عن تجربته الشخصية في علاج المرضى النفسيين الذين بدا أنهم مُقيّدون تماما، و لكنّهم تمكّنوا من التقّدم و كسر القيود. و لكن فروم – و كما أشرتُ سابقا – لا يُريد أن يُنكر وجود حالات وصلت إلى نقطة "اللاعودة". 

إن حُرية الإختيار عند فروم – و كما عند غيره – تعني أن يسلك الفرد وِفق اهتماماته العقليّة، أو بتعبير أدق، وِفق ما  تُقرره أفكاره الواعية، و ضدّ رغباته العاطفية اللاوعية، و هنا تحديدا يثير موضوعا هاما جدا، و هو دور الوعي في تحديد عمّا إذا كان "الفرد" فعلا حُرّا أم لا، و جديرٌ بالذكر هنا أن فروم يعني "الفرد" حرفيا، و ليس "الإنسان"، و هو هنا يختلف مع القُدماء الذين تحدّثوا عن مفاهيم عامة كـ "الإنسان" و "الخير" و "الشر"، و بشكل مُجرّدٍ جدّا، فلا يوجد في نظره هكذا مفاهيم، إذا يُمثّل كل فردٍ إمكانيّاته الخاصة، كما لا يوجد "خير" أو "شر" عام بل أفعالٌ ملموسة يُقصد بها الخير أو الشر وفق تعريفٍ محدّد. 

الوعي مهمُّ جدّا عند فروم، و هو هنا يتحدّث عن وعي عميق، يشملُ وعي الفرد للدوافع اللاواعية خلف رغباته، و وعيه للتبريرات المنطقيّة التي يُقدّمها ليتجاوز الصراع، و كذلك وعي العواقب والأثار الحقيقية التي يمكن أن تترتب على سلوكه، و لكن هذا كله لن يكفي لتحقّق الحرية، فلابد من وعيٍ أخرٍ شديد الأهمية و هو وعيُ مرحلة الإختيار الحقيقي. و يقصد فروم بهذا الوعي الأخير أن الفرد يَمر بسلسلة أحداث قبل الموقف الذي يعتبره نهائي و مصيري، و عليه أن يُقرر و يحسم موقفه مبكرا في بداية سلسلة الأحداث، و إلا فإنه سيفقد القدرة على الإختيار، و لن تكون الأحداث اللاحقة إلا وهْماً بالقدرة على إمكانية التغيير حتى يسقط في الفخ. يُشدّد فروم أيضا على وعي البدائل "الحقيقية"، ففي كل موقف تتوفر لدى الفرد عدة بدائل و خيارات يُمكن أن يختار بينها، و هنا مرة اخرى يختلف مع الحتميين الذي يعتقدون بوجود خيار واحد حقيقي و ضروري، إلا أنه يقصد البدائل "الحقيقية" أي "الواقعية" و ليس تلك الناتجة عن "تخيلات" الفرد.

إن الفرد إذا تردّد كثيراً في الإختيار حين يكون حُرا، أو يقطع عمراً في القرارات والإختيارات الخاطئة من بين كل البدائل المُتاحة له، فإنه يصل إلى "نقطة اللاعودة"، و التي يُعبّر عنها فروم أحيانا بتعبيرٍ دينيّ: قسوة القلب، و لكنّ ليُحدّد عمّا إذا كان فعلا مسؤولا عن حالته الأخيرة هذه يتساءل فروم عن "الوعي": هل كان الفرد واعيا لذاته و وضعه و قراراته؟. هنا يعطينا فروم تعريفا مختلفا للمسؤولية، لا صلة له بالعقاب ولا بالذنب، و في هذا التعريف تعني المسؤولية فقط "أنني واعٍ لما قد فعلتُه".

الجهد هو أيضا له دور هام عند فروم، إذ لا ينفع أي وعي من دون جهد شديد للتقدم إلى الأمام. فالوعي – بمعناه العميق المذكور – والجهد الشديد هما شرطان ضرويان عند فروم لتحقيق حُرية الإختيار و الإرادة عند الفرد، و بدونهما لا حُرية و لا إختيار. و فروم – كما يصرح بنفسه – ليس وحيدا في مذهبه هذا، بل يتفق معه كلا من فرويد و ماركس واسبينوزا، فكل هؤلاء المفكرين العظام و إن بدا أنهم حتميون بسبب بعض تصريحاتهم الخاصة، و التي لم تكن سوى تعبيرات عن ملاحظتهم لدرجة الميول المتوفرة لدى الفرد و المجتمع، إلا أنهم كانوا يؤمنون و بعمق بإمكانية التغيير، و ليس من دليل على ذلك أكثر من : كتاب "الأخلاق" لاسبيننوزا، و الثورة الإشتراكية لماركس، و علاجات فرويد لمرضى "العُصاب".

إنني أتساءل بعد قراءة الكتاب عن نسبة من يملكون الوعي العميق و قدرة الجهد الشديد الذي يتحدث عنه فروم، ممّن كانوا و سيكونون!

شكرا للقراءة
علي داود اللواتي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق