كيف نفهم الآخر؟ مشكلة الاطار الفكري المختلف
بقلم: علي داود اللواتي
بقلم: علي داود اللواتي
رغم بداهة ما سيلي الا أننا ننساه أو نتناساه في وقت الاختلاف، ليحصل الخلاف.
والحقيقة أنه رغم بساطته أخذ مني وقتا كثيرا، فقد حاولت أن أربط بين مفاهيم مختلفة وأدخل أخرى لم أقرأ فيها الكثير، فلم أوفق. وعلى كل أضعه بين أيديكم لعلي أجد ما يسعفني على تطويره وتوسيعه.
والحقيقة أنه رغم بساطته أخذ مني وقتا كثيرا، فقد حاولت أن أربط بين مفاهيم مختلفة وأدخل أخرى لم أقرأ فيها الكثير، فلم أوفق. وعلى كل أضعه بين أيديكم لعلي أجد ما يسعفني على تطويره وتوسيعه.
تصور معي
تصور معي أننا خرجنا في مظاهرة كبيرة بقيادة السيد أكس الى سفارة المملكة العربية السعودية، طالبين من الحكومة السعودية أن تضغط على المدعو محمد العريفي ليعتذر على الاساءة التي صدرت منه في حق مرجعنا آية الله السيد علي الحسيني السيستاني دام ظله الوارف، صارخين: معكم معكم لا مع عدوكم.!.
وهناك عدد من الناس على جنبات الطريق الذي نسير عليه لا يشاركوننا وهم على عدة فئات: فهناك عامل هندي يعمل تحت أشعة الشمس الحارقة براتب شهري لا يزيد على 100 ريال عماني، يجمع منه ما يستطيع أن يجمع حارما نفسه من كثير من حقوقه الانسانية، ليرسله في نهاية الشهر الى عياله في الهند، كما أن على كاهله الضعيف مسؤولية تدريسهم وتزويجهم. وهناك سائح من بلد ينظر فيه الفرد لحاكم دولته كما ينظر الى خادمه، ولا يلصق بعد اسم أي أحد (رضي الله عنه) أو (عليه السلام) أو (دام ظله الوارف) أو (قدس سره الشريف). وهناك أيضا محلل سياسي مهتم بشؤون دول الخليج العربي.
ياترى ماذا يفكر كل واحد من هؤلاء وهو يتابع هذه المظاهرة؟
هل يفكر مثل السيد أكس الذي يقود المظاهرة باتجاه السفارة السعودية؟
وماذا يفكر السيد أكس قبل كل شيء؟
هل سيفهم هؤلاء السيد أكس ويقتنعون بكلامه؟
هل توافقني اذا قلت بأن: العامل الهندي لن يفهم سبب المظاهرة او يقتنع بكلام السيد أكس الا اذا قال له أن السيد السيستاني دام ظله يعطيه راتبا شهريا يزيد على 100 ريال من دون أن يعمل تحت الشمس، وأن السائح الأجنبي لن يفهم أيضا الا اذا قال له أننا نخرج في مظاهرة ضد كل من يسيء الى غيره وليس ضد العريفي فقط أو لأجل السيد السيستاني فقط؟.
ماذا أريد أن أقول؟
ان كلا من العامل الهندي والسائح الأجنبي والمحلل السياسي والسيد أكس ينظر الى المظاهرة من زاوية مختلفة. هناك ما يمكن أن نسميه غلاف (أو اطار) خاص يحيط بدماغ كل واحد منهم، وهذا الغلاف لايمرر ما يقوله الآخر. هذا الغلاف أو هذا الاطار هو ما نطلق عليه (الاطار الفكري).
الثقافة والاطار الفكري
ماذا تعني كلمة الثقافة؟ يعني مثلا عندما نقول ثقافة الشعب الأمريكي تختلف عن ثقافة الشعب العماني، ماذا نعني بالضبط؟. اننا نعني كما هو معلوم أن طريقة تفكير الشعب الأمريكي تختلف عن طريقة تفكير الشعب العماني أو رؤية الأمريكي تختلف عن رؤية العماني. كما أننا نعني بذلك أن عادات وتقاليد الشعب الأمريكي تختلف عن عادات وتقاليد الشعب العماني وهذا الأخير يرجع في حقيقته الى الأول أي الى الاختلاف في طريقة التفكير والاختلاف في الرؤى.
اذن الثقافة تعني طريقة التفكير، واختلاف الثقافة يعني الاختلاف في طريقة التفكير، ولكن لماذا طريقة التفكير مختلفة؟ الجواب ببساطة: لاختلاف الظروف الحياتية.
ما أريد أن أقوله هنا هو: أن الانسان أو المجتمع تتحكم فيه ظروفه التي يعيشها، وكلما اختلفت ظروفه اختلفت طريقة تفكيره. ان الظروف هي التي تخلق الثقافة يعني هي التي تخلق طريقة التفكير. وهذه الظروف قد تكون ظروف طبيعية (أي من الطبيعة كالزلازل والبراكين) أو ظروف عائلية أو ظروف مادية..الخ.
اللاشعور
في اعتقادي: التفكير التابع للظروف الحياتية مع مرور الزمن ومع كثرة التكرار، تنغرس نتائجه في اللاشعور (أو العقل الباطن)، وتتغلغل في النفس الى درجة أن تصبح جزءها الذي لا يتجزأ، وتتحكم في سلوك الانسان العملي والعلمي من حيث لا يشعر، ولذلك عندما تتغير الظروف مرة أخرى أو تطرح أفكار جديدة فان الغالبية ترفضها بدعوى الحفاظ على التراث المقدس. ترفضها الى درجة التضحية بالنفس.
مثال1
الأب في المجتمع العربي يستطيع أن يقتل ابنته اذا عرف بأن لها عشيقا أو حبيبا من دون زواج شرعي يعترف به المجتمع. بينما الأب في المجتمع البريطاني مثلا يستطيع أن يشاهد ابنته وهي تحضر عشيقها الى بيتها، وسبب هذا ليس لأنه يأكل لحم الخنزير الذي يفقد الغيرة كما تقول مطابخنا العلمية الواقواقية.
ان هذا الأب البريطاني يعتقد بأن تعرف ابنته على شاب بهذه الطريقة هي أفضل وسيلة تستطيع من خلالها أن تختار شريك حياتها، وهو يعتقد بأن الأب العربي انسان جاهل بدائي يجب أن يعيش في الغابات لا المدن. بينما الأب العربي يعتقد أن الأب البريطاني ديوث (أو مخنث) عديم الشرف والكرامة.
ان الأب العربي ينظر لهذا الموضوع من زاوية العزة والكرامة والشرف، والأب البريطاني ينظر اليه من زاوية أنه حل لقضية مهمة، وكل منهما يعتقد بأنه المحق والمصيب، ويقوم وقت الجدال بعدّ سلبيات لا تنتهي لطريقة الطرف المقابل.
كل من الأب البريطاني والأب العربي يتهم الآخر بأنه لا يتبع المنطق السليم ولا يفكر بطريقة صحيحة، ويجلب مئات الأدلة العقلية والنقلية التي تؤيد وتدعم رأيه وطريقته، من دون أن ينتبه أي منهما الى أن سبب الاختلاف ليس في عدم اتباع الآخر للمنطق وقواعد التفكير السليم.!
ان سبب الاختلاف في هذا الموضوع هو اختلاف الثقافة أو طريقة التفكير، وبتعبير آخر اختلاف المنطق. فمنطق الأب العربي يختلف عن منطق الأب البريطاني.
الأب العربي ولد وترعرع في بيئة تقول: النار ولا العار. والأب البريطاني ولد وترعرع في بيئة تعتبر الحرية فوق كل شيء.
سبب الاختلاف باختصار هو: أن كل طرف يتبع منطق خاص به، ويعتقد أنه يتبع المنطق المطلق الذي يطبق في كل زمان ومكان.
مثال2
عندما نقرأ تاريخ الاديان نلاحظ أن كل شعب يملك آلهة خاصة به دون بقية الشعوب. يعني مثلا آلهة المصريين كانت تختلف عن آلهة العرب. لماذا ياترى؟. الجواب: الشعوب كانت تختار الآلهة حسب طبيعة وجغرافية المنطقة التي كانت تقطنها. فاذا كانت المنطقة معرضة للزلازل والبراكين نجد هناك اله البركان واله الزلزال، واذا كانت المنطقة منطقة زراعية نجد هناك اله المطر واله الزرع واله التربة، وهكذا.
وكل شعب كان يرى أن الهه هو الاله الأقوى والأكمل.
فهو اذن لم يتبع المنطق المطلق في اعتقاده هذا بل الظروف الطبيعية التي كان يعيشها هي التي دفعته لمثل هذا الاعتقاد والاختيار.
مثال3: العوام
مشكلة العوام أنهم يتلونون بلون البيئة التي يكونون فيها أو يولدون فيها، ويعتقدون أن لونهم هذا هو لون العالم كله.! فهم اذا ولدوا في العراق حيث الكل ينادي ياحسين ياحسين، نادوا معهم ياحسين ياحسين، ولو ولدوا في أوروبا أو أمريكا لنظروا الى نفس النداء بعين السخرية والاستهزاء.. ولو ولدوا في الهند حيث الكل ينادي (راما كريشنا)، لنادوا معهم (راما كريشنا).
الاطار الفكري النسبي
تفكير الانسان نسبي، فهو يتحرك ويعمل ويفكر تحت تأثير الظروف التي يعيشها، وهو لا يرى الحقيقة انما يرى ما يريد أن يراه ويعتقد أنه يرى الحقيقة. ولكن هل هذا الامر يحصل دائما؟ يعني: هل كل انسان له اطار فكري؟.
الجواب: من الصعب أن لا تترك البيئة والظروف أثرا في طريقة تفكير الانسان أو المجتمع، وبالتالي يمكننا أن نقول أن الكل له اطار فكري ومنطق خاص به.
طيب، هل يمكننا أن نتخلص من اطارنا الفكري حتى نرى الحقيقة كما هي لا كما نريدها؟
طيب، هل يمكننا أن نتخلص من اطارنا الفكري حتى نرى الحقيقة كما هي لا كما نريدها؟
الجواب: نستطيع أن نقول أن الانسان كلما زادت ثقافته، وكلما خرج من البيئة التي يعيش فيها، واختلط ببيئات مختلفة، كلما تخلص من اطاره الفكري، ولكن هذا (ليس بالضرورة) يعني أنه تحرر ولم يعد يفكر بطريقة خاصة ومنطق خاص، فهو (قد) يتحرر من اطار ليتقيد باطار آخر.
البحث العلمي (أو الموضوعي).
البحث الموضوعي هو أن ينظر الباحث الى الموضوع متجردا من أي ميل وانتماء وهذا يتحقق بنزع قداسة موضوع البحث كليا.
فالانسان اذا اعتبر موضوع البحث مقدسا فان بحثه لا يمكن أن يكون بحثا موضوعيا علميا. حيث سيكون كل همه أن يثبت ويربط بين مقدساته ونتائج بحثه، لا أن يكتشف الواقع كما هو. ونزع قداسة تعود عليها الانسان فترة طويلة ليس بالأمر الهين ولكنه ليس بالأمر المستحيل أيضا. فكلما خرج الانسان من بيئته ومحيطه واستطاع أن يرى الأمور من منظار مخالفيه كلما كان أقدر على نزع رداء القداسة هذا. وهذا النزع يجب أن يكون نزعا شاملا كليا. وليس كما يفعل البعض حيث يترك تقديس رأي أو عقيدة ليقدس رأيا أو عقيدة أخرى. وفي هذا الاتجاه يسير العلم الحديث والمنطق الحديث منذ القرن الماضي فهو لا يقدس أي شيء ولا يتعصب لأي شيء ويضع كل الاحتمالات على طاولة البحث.
يمكن تشبيه موضوع البحث بهرم سداسي الأوجه، ولاكتناه حقيقة هذا الهرم يجب النظر اليه من كل الزوايا لا من زاوية واحدة، وهذا النظر من الطبيعي أنه لا يمكن أن يكون الا من خلال التحرك بالكامل من وجه الى وجه، أي بالوقوف أمام كل وجه مباشرة.
وهذا للأسف ما لا يفعله مدعي الحقائق!. انهم بدل أن يتحركوا من أماكنهم ليباشروا كل الأوجه، يكتفون بمط أعناقهم صوبها، ومن الطبيعي أن مط العنق هذا لا يكفي لفهم حقيقة الهرم ككل.
عدم التعصب لنتيجة البحث واحتمال وجود خطأ فيه دوما
الانسان مهما حاول فانه غير كامل وغير معصوم عن الخطأ، وفي نفس الوقت لا يستطيع أن يتجرد تماما من اطار ما في تفكيره وبحثه، ولذلك عليه ان لا يتعصب لنتيجة بحثه، ويعتقد أنه وصل الى الحقيقة المطلقة. فالتاريخ والتجارب حتى يومنا هذا تثبت أن النظرات النسبية تتراكم فوق بعضها البعض لتبني سلما نحو الحقيقة المطلقة. انظر الى تاريخ العلم والفكر، فان فيه الدليل على صحة ما أقول.!
هل يمكن الجمع بين العقيدة والبحث الموضوعي؟
يقول الدكتور علي الوردي: "ميزة البحث الموضوعي كما أشرنا أنه مشكك يتطلع كل يوم الى رأي جديد لم يألفه من قبل. أما العقيدة فشأنها الوثوق والايمان الراسخ. وللانسان أن يؤمن بأية عقيدة يشاء اذ هو حر في ذلك، انما هو لا يمكن أن يسمي نفسه باحثا علميا. انه مخير بين أن يترك سبيل البحث العلمي نهائيا أو أن يأخذ منه الجانب الذي لا تتدخل عقيدته فيه. أما اذا أراد أن يجمع بينهما في مجال واحد، فان ذلك دليل على أنه لا يفهم ولا يريد أن يفهم".
شكرا للقراءة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق