السبت، ١٨ ديسمبر ٢٠١٠

مقدّمة في العرفان الاسلاميّ - الجزء الثالث

مقدّمة في العرفان الاسلاميّ - الجزء الثالث
اعداد: علي داود اللواتي

ما النسبة بين ما بيّنه الإسلام وما عرضه العرفان؟

من المؤكد أن العرفاء المسلمين لا يدّعون أنّ لهم كلاماً وراء كلام الإسلام، ويتبرّأون من مثل هذه النسبة بشدّة، بل يدّعون أنهم اكتشفوا الحقائق الإسلامية أحسن من غيرهم، وانهم هم المسلمون الحقيقيّون، ويستند العرفاء سواء في القسم العملي أو النظري إلى الكتاب والسنة وسيرة النبي والأئمة وأكابر الصحابة.


ولغيرهم آراء بشأنهم نذكرها على التوالي:


أ) نظرية جماعة من المحدّثين والفقهاء الإسلاميين: هؤلاء يعتقدون بأن العرفاء ليسوا متقيّدين بالإسلام، وان استنادهم إلى الكتاب والسنة ليس إلاّ خداعاً للعوام.


ب) نظرية جماعة من مثقفي العصر الحاضر: وهؤلاء يتّحدون مع الفرقة الأولى في أن العرفان يخالف الإسلام ويضادّه، وانما يختلفون في أن الفرقة الأولى تقدّس الإسلام، بينما هم يسعون ليجدوا من شخصية العرفاء ـ الذين يتمتّع بعضهم بشخصيّة عالميّة ـ وسيلة للدعاية ضد العرب والإسلام.


ج) نظرية المحايدين: بامكاننا أن نجد في العرفان والتصوّف، ولا سيما في العرفان العملي، وبالأخص فيما يجد جانباً عملياً للفرقة، تحريفات ومبتدعات كثيرة لا توافق كتاب الله ولا السنة المعتبرة، إلا أن العرفاء كسائر طبقات أصحاب الثقافة الإسلامية في غاية الاخلاص للإسلام، ولم يريدوا أن ينطقوا بشيء يضاد الإسلام، من الممكن أن يكون لهم أخطاء كسائر طبقات أصحاب الثقافة كالمتكلمين والفلاسفة والمفسرين والفقهاء، إلاّ انهم لم يضمروا السوء للإسلام.


ونحن نرجّح النظرية الثالثة ونعتقد بأن العرفاء لم يضمروا السوء للإسلام، وفي الوقت نفسه نرى من اللازم أن يبحث متخصّصون في المعارف الإسلامية والعرفان في مدى توافق المسائل العرفانية مع الإسلام، بلا أي انحياز أو ممالأة. (1)


هل العرفان الإسلامي من قبيل الفقه والاصول والتفسير والحديث؟ أي هل هو من العلوم التي اتخذ المسلمون موادّها الاصلية من الإسلام واكتشفوا لها القواعد والاصول والضوابط؟ أو هو من قبيل الطب والرياضيات التي دخلت إلى عالم الإسلام من خارجه وتطوّرت وتكاملت على يد المسلمين؟ أو ان هناك قسماً آخر؟.


يختار العرفاء أنفسهم الشطر الأول ولا يقبلون أيّ احتمال آخر، وقد أصرّ بعض المستشرقين، ويصرون على أن العرفان وأفكاره الدقيقة واللطيفة، انما دخلت عالم الإسلام من خارجه.

يقول أصحاب النظرية الثالثة المذكور أعلاه: أن العرفان بقسميه العملي والنظري أخذ مواده الأولى من الإسلام وبيّن له قواعد وضوابط واصولاً... أما ما مدى موفّقية العرفاء في بيان القواعد والضوابط الصحيحة المستخرجة من المواد الإسلامية الاولى، وما مدى التزامهم بعدم الانحراف عن الاصول الإسلامية الواقعية؟ هذه أمور يجب ان يبحث بدقة في مظانّها، والمؤكد أن العرفان الإسلامي أخذ اصوله من الإسلام فحسب.


أمّا صحاب النظرية الأولى ـ وعدة من أصحاب النظرية الثانية ـ يدعون أن الإسلام دين فطري ودون تكلّف وخال من كل رمز أو أمور غامضة غير مفهومة أو صعبة الفهم، فأساس عقائد الإسلام عبارة عن التوحيد، والتوحيد في الإسلام يعني، كما أن للبيت بانياً متميزاً (أو منفصلا) عن البيت، كذلك العالم له بان خالق متميز عنه، واساس علاقة الإنسان بمتاع الحياة الدنيا في نظر الإسلام هو الزهد، يعني الإعراض عن متاع الحياة الدنيا الفانية للوصول إلى نعيم الحياة الخالدة، وإذا تجاوزنا هذه الأُسس وصلنا إلى سلسلة من المقررات الفطرية الفقهية، هؤلاء يرون أن ما جاء به العرفاء باسم التوحيد ليس إلاّ شيئاً وراء التوحيد الإسلامي (أي التوحيد عند العرفاء ليس هو التوحيد الموجود في الاسلام)، إذ التوحيد العرفاني عبارة عن وحدة الوجود وان لا شيء في الوجود سوى الله وشؤونه واسمائه وصفاته وتجلياته. والسلوك العرفاني أيضاً شيء وراء الزهد الإسلامي، إذ نجد في السلوك العرفاني سلسلة من المعاني والمفاهيم لا نجدها في الزهد الإسلامي، من قبيل العشق وحب الله، والفناء في الله وتجلي الله على قلب العارف. والطريقة العرفانية أمر وراء الشريعة الإسلامية، إذ فيها آداب لا نجد أثراً لها في الفقه والشريعة الإسلامية. هؤلاء يرون أن خيار الصحابة الذين ينتسب إليهم العرفاء ويعدونهم أئمتهم، لم يكونوا إلاّ زهّاداً عابدين، ولم يكن لهم أي اطلاع على السلوك العرفاني، أجل كانوا معرضين عن متاع الحياة الدنيا مقبلين على الآخرة، ولم يكن لهم أي أصل في ذلك سوى الخوف والرجاء، الخوف من عذاب جهنم ورجاء ثواب الجنة، فقط.

والحقيقة: أنه لا يمكن تأييد نظرية الفرقة الأولى والثانية، فان المادة الإسلامية الأولى أغنى مما تفترضة هذه الفرقة عمداً أو جهلاً، فلا التوحيد الإسلامي بهذه البساطة والسذاجة والفراغ الذي افترضه هؤلاء، ولا المعنوية الإسلامية الإنسانية مقصورة على الزهد الجامد، ولا صحابة الرسول الكرام كانوا كما وصفهم هؤلاء، ولا الأداب الإسلامية محدودة بأعمال الأعضاء والجوارح الظاهرة وحدها.


وهنا نأتي بمطالب تثبت أن تعاليم الإسلام الأصيلة، كان بإمكانها أن تكون ملهمة لسلسلة من المعارف العميقة في العرفان، أما كم أفاد العرفاء المسلمون من هذه التعليمات، وكم انحرفوا عنها فهو بحث آخر.


إن القرآن الكريم لا يقيس الخالق والخلقة بالباني والبناء، ان القرآن يؤكد أن الله هو خالق العالم ويصفه بأنه في كل شيء، ومع كل شيء: "اينما تولوا فثم وجه الله" و"نحن أقرب إليه منكم" "هو الأول والآخر والظاهر والباطن". وبديهي أن أمثال هذه الآيات دعت الأفكار إلى توحيد أسمى وأعلى من توحيد العوام، وقد جاء في حديث الكافي: "أن الله علم أنه يأتي في آخر الزمان متعمقون فانزل الآيات الأولى من سورة الحديد وقل هو الله أحد".


ويكفي في السير والسلوك وطيّ المراحل للتقرب إلى الله حتى آخر منزل أن نلقي نظرة على بعض الآيات في (لقاء الله) و(رضوان الله) و(الوحي والالهام ومكالمة الملائكة)، ولا سيما مع غير الأنبياء كمريم عليها السلام، وآيات معراج الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وقد جاء في القرآن الحديث عن (النفس الأمارة) و(النفس اللوامة) و(النفس المطمئنة) وعن (العلم الافاضي) و(العلم اللدني) وعن الهداية نتيجة (المجاهدة) "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا" وعن (تزكية النفس) بعنوان أنها طريق الفلاح الوحيد: "قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها" وعن (الحب الإلهي) وانه فوق كل حب.

وتكفي هذه المفاهيم والآيات وغيرها، لأن تكون ملهمة لمعنوية عظيمة وواسعة بشأن الله والعالم والإنسان، ولا سيما بشأن علاقة الإنسان بربه. أضف إلى ذلك أن الروايات والخطب والأدعية والاحتجاجات الإسلامية وتراجم أكابر المتربّين بتربية الإسلام، تثبت لنا أن الذي كان في صدر الإسلام لم يكن زهداً جامداً وعبادة على أمل الأجر والثواب، أن في الروايات والخطب والأدعية والاحتجاجات معاني عظيمة، وان تراجم شخصيات الصدر الأول تحكي عن سلسلة من الثورات الروحيّة والبصائر القلبية، وعن عشق واحتراق معنوي عظيم.


ان حياة وحالات وكلمات ومناجاة الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، مليئه بالثورات المعنوية الالهية والاشارات العرفانية، وقد استشهد العرفاء كثيراً بأدعية الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وكلمات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ملهمة للمعرفة المعنوية، وهو الذي إليه ينهي أكثرية أهل العرفان سلسلة مشيختهم. وان الأدعية الإسلامية، ولا سيما الأدعية الشيعية كنز من المعارف، كدعاء كميل ودعاء أبي حمزة الثمالي والمناجاة الشعبانية وأدعية الصحيفة السجادية.

فهل لنا مع جميع هذه المنابع أن نفتش عن أي منبع من خارج عالم الإسلام؟. (2)


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 


(1) الاسلام وايران / العرفان والاسلام / الشهيد مرتضى المطهري
(2) المصدر السابق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق