الخميس، ٢٧ يناير ٢٠١١

حوار مع الدكتور عبدالكريم سروش: آراء مثيرة للجدل حول القرآن



القرآن هو نتاج عقل محمد. هذا ما يقوله المفكر الإصلاحي الإيراني عبد الكريم سروش في كتابه “بسط التجربة النبوية”. وهو فهم يتجاوز حتى ما تجرأ عليه الاصلاحيون الأكثر راديكالية لحد الآن. في مقابلة مع مجلة زمزم الهولندية المتخصصة بقضايا العالم الإسلامي، عام 2007، يوضح سروش بعض افكاره. أجرى المقابلة للمجلة المحرر في إذاعة هولندا العالمية ميشيل هوبينك.

حين تـُرجمت المقابلة لاحقاً إلى اللغة الفارسية وتم تداولها في إيران أثارت هناك جدلاً واسعاً، شارك فيه مفكرون وأكايميون ورجال دين كبار، مثل آية الله سبحاني وآية الله همداني، بل إن مرشد الثورة علي خامنئي علق بدوره على ذلك الجدل، محذراً من تكفير اصحاب الافكار المخالفة او رميهم بالارتداد. ورغم مرور بضع سنوات على نشر المقابلة للمرة الأولى في مجلة هولندية، فإن ما تضمنته من أفكار لا يزال يستحق النقاش، مما يدفعنا لنشرها باللغة العربية.

ميشيل هوبينك - أمستردام/ يُنظر إلى الشيعي عبد الكريم سروش كأهم ملهم فكري لحركة الإصلاح الإيرانية. في البداية كان من مؤيدي الخميني. فشغل عدة مناصب رسمية في الجمهورية الإسلامية الفتية، ومنها منصب مستشار الخميني في شؤون الإصلاح الإسلامي للتعليم والثقافة. ولكن سرعان ما استحال الزعيم الروحي إلى طاغية فانسحب سروش خائبة آماله. ومنذ مطلع التسعينات وهو يشكل جزءا من مجموعة من المثقفين “الجمهوريين” الذين كانوا يدافعون عن “ديموقراطية إسلامية”، ولكنهم بدأوا يتخلون تدريجيا عن فكرة الدولة الإسلامية برمتها.

المتن الفكري لسروش في واقعه بسيط جدا: كل التفكير البشري حول الدين تاريخي وغير معصوم من الخطأ. بهذه الفكرة يقطع في ساقي الثيوقراطية الإيرانية، لأنه إذا كانت كل المعرفة الإنسانية عن الدين معرضة للخطأ، فلا أحد يمكنه أن يطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية باسم الله، ولا حتى رجال الدين الإيرانيون.

يوضح سروش في “بسط التجربة النبوية” أن رؤيته لعدم معصومية المعرفة الدينية تنطبق إلى حد ما أيضا على القرآن. فهو ينتمي، مع مفكرين من أمثال نصر حامد أبو زيد ومحمد أركون، إلى مجموعة صغيرة من الإصلاحيين الراديكاليين تدعو إلى مقاربة تاريخية للقرآن. إلا أن سروش في كتابه الجديد يخطو خطوة أبعد من كثير من زملائه الراديكاليين. فهو لا يدعي فقط أن القرآن نتاج للظروف التاريخية التي نشأ فيها، بل هو نتاج أيضا لروح النبي محمد بكل محدودياته البشرية. هذه الفكرة ليست جديدة، حسب سروش، لأن مفكرين عديدين في القرون الوسطى لمحوا إلى ذلك من قبل.

- كيف يمكننا في عالمنا المعاصر المحرر من السحر أن نفهم شيئا مثل الوحي؟

’الوحي” هو “الإلهام”. هو نفس التجربة التي يخضع لها الشعراء والمتصوفة. الاختلاف هو أن الأنبياء يقفون فيه في مستوى أعلى. وفي عصرنا الحديث يمكننا فهم الوحي على الأرجح عن طريق مقارنتنا إياه مع الشعر. قال فيلسوف مسلم ذات مرة أن الوحي شعر من نوع أسمى. فهو مصدر للمعرفة يعمل بشكل يختلف عن الفلسفة أو العلم. يشعر الشاعر أنه يتلقى الزاد من مصدر خارجي عنه. يشعر أنه يتلقى شيئا ما. فالشعر، مثل الوحي، موهبة. قد يفتح الشاعر آفاقا جديدة ويجعل الناس ينظرون إلى العالم بطريقة مختلفة‘.

- أنت معروف بدعوتك إلى منهج المقاربة التاريخية للقرآن. لكن إلى أي مدى لعب النبي محمد دورا نشيطا بل وحاسما في إنتاج النص القرآني؟

’النبي يشعر، مثله في ذلك مثل الشاعر، أنه يُمسـَك به من قبل قوة خارجية عنه. ولكن في الواقع – أو بالأحرى في الوقت نفسه – يكون هو الخالق والمنتج. أما السؤال عما إذا كان الإلهام يأتي من الداخل أو من الخارج فهذا لا يهم في الواقع، لأنه على مستوى الوحي ليس هناك فرق بين الداخل والخارج. الإلهام يأتي من ذات النبي. وذات كل فرد هي ذات إلهية. ما يميز النبي عن غيره من الناس هو أنه يدرك هذه الألوهية. فذاته أصبحت تشكل مع الله شيئا واحدا. وهنا يجب ألا تسيء فهمي: فالتوحد الباطني بالله لا يعني أن النبي أصبح هو الله. بل إنها تلك الوحدة المقتصرة على مقاييسه الإنسانية والمصممة خصيصا لذلك. الشاعر المتصوف جلال الدين الرومي يقولها هكذا: “مع توحد النبي بالله، وكأنك تسكب المحيط في جرة”.‘

’وللنبي أيضا طريقة أخرى ليكون هو خالق الوحي. ما يتلقاه من الله هو جوهر القرآن. إلا إن هذا الجوهر لا يمكن أن يُعرض على الناس هكذا لأنه يتجاوز فهمهم، بل ويتجاوز أي تواصل إنساني. ليس لهذا الجوهر أي شكل ومن واجب النبي إعطاؤه شكلا لأجل أن يُصبح قابلا للفهم. ومثله مثل الشاعر، فالنبي يعكس الإلهام في شكل اللغة التي يعرفها، والأساليب التي يتقنها والصور والمعارف المتاحة لديه. وتلعب شخصيته أيضا دورا في تشكيل النص: تاريخه الشخصي، وشبابه، وأبوه، وأمه وكل ما عايشه من تجارب. ولمزاجه دور أيضا. فإذا قرأت القرآن تلاحظ أن النبي يكون أحيانا حاد المزاج وبليغ اللسان، بينما ينتابه في أوقات أخرى قليل من الملل وتكون حماسته أقل. كان لكل هذه الأمور دور هام في تشكيل القرآن. وهذا هو الجانب الإنساني البحت في مسالة الوحي.‘

- للقرآن إذن جانب بشري. فهل يعني هذا أن القرآن غير معصوم من الخطأ؟

’الوحي من وجهة النظر التقليدية معصوم. ولكن هناك في يومنا هذا عدد متزايد من شارحي القرآن الذين يفترضون أن القرآن وحي معصوم فقط في المسائل الدينية البحتة مثل صفات الله، والحياة بعد الموت وقواعد التعبد. أما ما يرد في القرآن حول الأحداث التاريخية، والأديان الأخرى وجميع المسائل الدنيوية فليس في نظرهم صحيحا بالضرورة. كثيرا ما يعلل مثل هؤلاء المفكرين أن مثل هذه الأخطاء لا تقلل من النبوة لأن النبي، وفقا لرأيهم، “نزل” إلى المستوى المعرفي لأتباعه ووجه إليهم الخطاب “بلغة العصر”. أنا لي رؤية أخرى. أنا لا أعتقد ان النبي كان يتحدث “لغة عصره” بينما كان يعرف أفضل من ذلك. إنه كان يؤمن بما يقوله. كان ذلك هو ما في علمه وكانت تلك لغته. فهو لم يكن يعرف أكثر بكثير من معاصريه حول الأرض والكون وعلم الوراثة عند الكيان البشري. لم تكن تتوفر لديه المعرفة المتوفرة لدينا الآن. وهذا لا يؤثر في نبوته، لأنه كان نبيا وليس مؤرخا أو عالما.‘

- تحيل إلى فلاسفة ومتصوفة القرون الوسطى مثل جلال الدين الرومي. هل آراؤك في القرآن مستحدثة أم هي تجد أصلها في التراث الإسلامي؟

’للعديد من آرائي جذور في تصورات القرون الوسطى. ففكرة أن موهوبية النبوة أمر عام جدا يحمله جميع الناس في دواخلهم وفي تدرجات مختلفة فكرة منتشرة على نطاق واسع في الإسلام الشيعي وفي التصوف. أحد الفقهاء الشيعية الكبار كالشيخ المفيد يذكر أئمة الشيعة ليس على أنهم أنبياء، إلا أنه يعزو إليهم كل ما هو من مميزات الأنبياء. وحتى المتصوفون مقتنعون عموما أن تجاربهم هي نفسها تجارب الانبياء. أما مفهوم القرآن المحتمل نتاجا بشريا غير معصوم فهو موجود ضمنيا في مذهب المعتزلة في نظرية خلق القرآن. إلا أن مفكري القرون الوسطى كثيرا ما كانوا يعبرون عن هذه التصورات بصورة غير ممنهجة، بل يخبئونها في ملاحظات عارضة أو تلميحات مستترة. كانوا لا يريدون التشويش على الناس الذين لا يستطيعون التعامل مع مثل هذه الأفكار. وهكذا يقول جلال الدين الرومي مثلا أن القرآن يعكس الحالات النفسية المختلفة للنبي. ما يقوله الرومي في الواقع بكل بساطة هو أن النبي بشخصيته ومزاجه ولحظات ضعفه وقوته قد ترك أثرا في القرآن. أما ابنه فيذهب خطوة أبعد من ذلك. فهو يقول في أحد كتبه أن تعدد الزوجات مسموح به في القرآن لأن النبي كان يحب النساء. لذلك فهو كان يسمح لأتباعه أن يتزوجوا من أربع نساء!‘

- وهل يسمح التقليد الشيعي بمثل هذه الآراء أكثر مما يسمح بذلك التقليد السني؟

’لقد هُزِمت في الإسلام السني، في القرن التاسع، المدرسة العقلانية للمعتزلة هزيمة مأساوية من طرف الأشاعرة. إلا أن الاعتزال بقي يعيش في أحضان الإسلام الشيعي وأصبح تربة خصبة لتوليد تقليد فلسفي غني. فمذهب المعتزلة في خلق القرآن أمر لا جدال فيه تقريبا بين علماء الشيعة. وترى الآن أن الإصلاحيين السنة ينحازون على نحو متزايد إلى موقف الشيعة ويحتضنون الفكر المعتزلي. والغريب في الأمر أن رجال الدين في إيران على العكس من ذلك مترددون جدا في اللجوء إلى هذه المصادر الفلسفية المساعدة من أجل خلق فهم جديد لديننا. فقد أسسوا سلطتهم على تفسير محافظ ويخشون أن يقامروا بكل شيء إذا هم أخضعوا أشياء مثل طبيعة النبوة للنقاش.‘

- ما هي النتائج المترتبة على آرائكم حول القرآن بخصوص الكيفية التي يستخدم بها المسلمون المعاصرون القرآن كدليل أخلاقي؟

’تُمكِّن الرؤية الإنسانية للقرآن من التمييز بين الجوانب الجوهرية للدين وجوانبه التاريخية. بعض أجزاء الدين محددة تحديدا تاريخيا وثقافيا ولم تعد اليوم ذات أهمية. ومن الأمثلة على ذلك تلك العقوبات البدنية المنصوص عليها في القران. فلو كان النبي قد عاش في سياق ثقافي مختلف، لما كانت تلك العقوبات ربما جزءا من رسالته.‘

’علينا أن نفصل الرسالة الجوهرية للقرآن عن سياقها التاريخي والثقافي، وأن نترجمها إلى العصر الراهن. وهنا يتعلق الأمر بمضمون وروح تلك الرسالة وليس بلفظها. إن المسألة تشبه ترجمة الأمثال. ففي اللغة العربية تقول: إنه كمن يحمل التمر إلى البصرة. وإذا ترجمت ذلك إلى اللغة الإنجليزية فتقول: إنه كمن يحمل الفحم الى نيوكاسل. تُبقي على المضمون وتغير الألفاظ. ولا يمكن ذلك إلا عندما تنظر إلى القرآن باعتباره النص الذي حصل على شكله بواسطة التاريخ وشخص النبي. وإذا بقيت متشبثا بفكرة أن القرآن هو كلام الله الأزلي وغير القابل للتغيير والذي يجب أن يطبق حرفيا، فإنك ستُحمِّل نفسك في الزمن المعاصر معضلة غير قابلة للحل.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق