مقالات في الديمقراطية (1): أخلاق المجتمع الديمقراطي
من كتاب "قراءة بشريّة للدّين" تأليف الدكتور محمّد مجتهد الشبستري ص169-172.
أخلاق المجتمع الديمقراطي:
الأخلاق والقيم الضرورية للمجتمع الديمقراطي عبارة عن:
1- التحمّل والمداراة، من قبل الحكومة والأفراد، تجاه الرأي المخالف في الحقل السياسي أو الديني أو أي شيء آخر، وكذلك اختلاف القراءات في جميع الصّعد والمستويات الثقافية، حيث ينبغي الاعتراف بها رسميّا وتكون مبنى حياة الأفراد في علاقتهم مع الآخرين ومع المسؤولين.
2- الاعتراف الرسمي بحق الحياة السياسية لجميع الأفراد والفئات السياسية، فالجميع يجب أن يتمتّعوا بحقّ الحياة السياسية بصورة متساوية.
3- الاعتراف بحقوق الأقلّيات في المجالات السياسية والمجالات العامّة. فعندما يراد العمل بارادة الأغلبية وترتيب الأثر عليها في دائرة العمل والتطبيق، فلابدّ من الأخذ بنظر الاعتبار الحقوق السياسيّة وغير السياسيّة للأقلّيات في ذلك المجتمع.
4- أن تكون تصميمات الأغلبيّة (لأن الأغلبيّة هي التي تستلم زمام الحكم وتقرّر ما تراه صلاحا) مقبولة بشكل مؤقّت وتكون معتبرة الى زمان الحكومة التالية، فربّما يتمّ استبدال مقرّرات بمقرّرات أخرى، فالمقرّرات السياسيّة ليست دائميّة ولا [أنها] لا تقبل التغيير والتبديل، وليس بامكانها حذف المنافسة السياسيّة وأشكال التعاطي والتفاعل السياسي بين الأفراد والمجاميع، ولا أن تؤدي الى تكبيل الطّرف الآخر ومنعه من النهوض والتحرّك باستقلاليّة وحرّية. هذه المقرّرات يجب أن تتضمّن هذا المعنى وهو أننا كمجموعة حاكمة قرّرنا هذا الأمر وربّما يأتي آخرون بعدنا ويقرّون أمرا آخرا.
5- تكريس أخلاق المصالحة بين الفئات والتيّارات السياسيّة. وللأسف فانّ تعبير المصالحة يحمل في ثقافتنا مضمونا سلبيا، ولكنّ المصالحة في العلوم السياسيّة لها حمولة ايجابيّة. فالمصالحة أو المساومة لا تعني أن يترك الشخص أو الجماعة الأصول التي تتبنّاها، بل تعني الخضوع والالتزام بقواعد اللعبة السياسيّة والتوافق عليها وغضّ النّظر عن بعض الطّموحات السياسيّة الخاصّة، أي غضّ النّظر عن تلك الضوابط والمنافع الخاصّة من اجل ضمان وتحقيق منافع أكثر للمجتمع والشعب.
هذه عدّة مسائل تمثّل القيم الاخلاقيّة في النظم الديمقراطيّة، أي أنّ المجتمع الديمقراطي يجب أن يتخلّق بهذه الأخلاق، ويعيش هذه القيم. والحكومات الديمقراطيّة يجب أن تمارس السلطة بهذه الأدوات والقيم الاخلاقيّة. هذه هي أهم القيم لنظرية "سيادة الشعب"، وبدون الالتزام بها وتحقيقها في واقع الحياة والمجتمع فانّ النّظام الديمقراطي لا يمكن تحقيقه في فضاء المجتمع، واذا تقرّر أن نقبل بالكثرات والتعدّديات الموجودة في أفق المجتمع ونعترف بها رسميّا، فهذا القبول والاعتراف الرسميّ والحياة مع هذه الكثرة يتطلّب اخلاقا خاصّة، فاذا روعيت تلك القيم وأضحت جزءا من ثقافتنا وتربيتنا، ففي هذه الصورة تشتدّ أركان مقولة "سيادة الشعب" وتقوى دعائم الديمقراطية في ذلك المجتمع، ولكن عندما يفتقد المجتمع حالة المداراة ويتعامل الأفراد أو الفئات فيما بينهم بمنطق الخصومة والتعصّب والاحاسيس المذهبيّة والعرقيّة فانّ النّظام الديمقراطي سوف لا يجد محلاّ ومجالا للنمو والظهور في هذه الأجواء.
ينبغي أن نعترف ونقبل بأنّ جميع الفئات والأفراد يملكون حقّ الحياة السياسيّة بشكل مساو وبدون فرق سواء كانت تلك الفئة كبيرة أو صغيرة، أو كانت تملك أفكارا مقبولة بالنسبة لنا أو غير مقبولة، والمدة التي تستفيد منها احدى الفئات من الراديو والتلفزيون يجب أن تستفيد منها الفئات الاخرى بمثل هذه المدّة، وكذلك على مستوى الصحف أو الجامعات وما الى ذلك، فاذا تقرّر أن تستفيد فئة من امكانات هذه الصحف او الجامعات فانّ الفئات الأخرى يجب أن تستفيد [منها] أيضا بنفس المقدار. هذه الأمور يجب أن تتحوّل الى ثقافة وخلق وتكون طبيعيّة في حياة الأفراد.
هذه هي اخلاق وقيم النظام الديمقراطي، فلو فقدت هذه الامور، أي أننا لا نتحمّل التعدّدية والكثرة ولا نعترف بها رسميّا، فهذا يعني أن أتعامل مع الآخرين بمنطق الخشونة واحكم على الآخرين بالبطلان. والحكم بالبطلان على الآخرين يتمّ بنحوين:
أحدهما: أن أحكم على الآخر بالبطلان بشكل مستدلّ، مثلا أقول: أنت تملك حقّ البيان بشكل مساو لحقّي ولك الحقّ في بيان رأيك وتقديم الدليل عليه وبامكانك أن تدعو الناس لتأييد رأيك ونظريتك، وأنا لي هذا الحق بأن اطرح رأيي ونظريتي وأدعو الناس لها وأقيم الأدلة على صحّتها وعلى بطلان نظريّتك ورأيك. انّ مقولة "سيادة الشعب" تعني هذا المعنى.
والآخر: ان اتحرّك على مستوى اقصاء الآخر وأحكم عليه وعلى آرائه بالبطلان بآليات الخشونة والخصومة وأسلب منه وبأشكال مختلفة حقّ الحياة السياسيّة. وعندما أزعم انّ آرائه باطلة، فهذا يعني أنّه ليس له حقّ في طرح آرائه او أن يفتح فمه لبيان نظريّته، فكل هذه الأمور لا تتوافق مع الثقافة الديمقراطيّة.
الفضاء الديمقراطي:
ومن اجل تحقيق النظام الديمقراطي في واقع الحياة يجب أن يتحلّى أصحاب القدرة أيضا بهذه الاخلاق والقيم، فهذه الاخلاق والقيم ينبغي أن تجري في أوصال الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة، وهذا لا يتيسّر الاّ اذا تمّ تزريق هذه القيم والاخلاق الديمقراطيّة في مناهج التعليم والتربية السياسية والاجتماعية للأفراد، سواء في محيط الأسرة أو المدرسة أو الجامعة وحقول العمل الاجتماعي الاخرى، فالناس ينبغي أن يعيشوا هذا الجو بحيث أنّهم عندما يسلكون في الحقل السياسي فانّ تحمّل الآخرين يبدو لهم أمرا طبيعيّا، ولا يكون أمرا صعبا جدّا وغير عادي. فاذا تحمّل الانسان المخالف له في المدرسة فعندما يصل الى مقام سياسي يكون بامكانه تحمّل المخالف له برحابة صدر، ولكن اذا كان ذهنه في المدرسة مشحونا بعنصر التعصب والدوغمائية فانّه لا يتحمّل من يجلس الى جانبه في البرلمان والحكومة ويخالفه في العقيدة السياسية، فهذه الأمور يجب أن تتكرّس وتتوغّل في واقع المجتمع وتدخل صلب عملية النظام التربوي في المجتمع.
شكرا للقراءة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق