الأحد، ٦ مايو ٢٠١٢

نظرية التجربة النبويّة – محاولة فهم (الجزء الأول)


نظرية التجربة النبويّة – محاولة فهم
علي داود اللواتي

لا يوجد إجتهادٌ في أصول الدين عند عامّة علماء الدين، والإجتهاد هنا هو بالمعنى الموجود في الفقه والذي قد يؤدّي إلى إمكانيّة تَغيّر الحُكم الشرعي بتغيّر ظروف الزمان والمكان وفق قواعد وأسس معيّنة، فحتّى مع إصرار كُتب علم أصول الدين بضرورة كون المعتقَد ناتجٌ من البحث ولا أقل من الإطمئنان العُقلائي فإنّ النتيجة التي يجب الوصول إليها هي نفسها المعروفة لدى الجمهور. بتعبير أخر: ليس هناك تجديدٌ في النتائج عندما يكون الإجتهاد متعلّقاً بأصول الدّين وإنما قد يكون هناك تجديد في المقدّمات فقط، فمثلا بدلَ أن تقول كلّ متغيّر حادث، والعالّم متغيّر، إذن العالَم حادث، بدلَ أن تقولَ كلّ هذا تكتفي بقول أنّ "البج بانج" أثبتت حدوث العالَم.

ينتقدُ الفيلسوف الإيراني عبدالكريم سروش هذه الظاهرة في كتابه "قبض وبسط الشريعة"، فالفروع عنده مبنيّة على الأصول، والأصول بدورها مبنيّةٌ ومرتبطةٌ بمجموعةِ العلوم البشريّة الأخرى، وعندما تتغيّر هذه العلوم البشريّة الأخرى فلابدّ أن يَترك ذلك أثراً على أصول الدين. كما أنّ الدين برأيه لا يُمكن أن يَبقى ويستمر بمجرّد تغيير بعض الأحكام الفقهيّة هنا وهناك أو تأليف المزيد من المُجلّدات الفقهيّة بل يجب أن تتغيّر النظرة الى الدين ويجب قراءة الدين بشكل مختلف أيضا يتوافق مع الرؤية العصريّة للكون والمجتمع والإنسان. ولذلك فإنّ القاريء لنظريّة "التجربة النبويّة" التي هي عبارة عن "التجربة الدينية" لنبيّ الإسلام يرى بوضوح أنّها نظريّة إجتهاديّة في الأصل الثاني من أصول الدّين وهو "النبوّة"، تُريد أن تصل الى ماهيّة "النبوّة".

أولا: ماهو المقصود من "التجربة الدينيّة"؟

"التجربة النبويّة" هي "التجربة الدينية" لنبيّ الإسلام. ويُستخدم مصطلح "التجربة الدينيّة" في حقول مختلفة لثلاث صنوف من الظواهر على الأقل:

الأول: نوع من المعرفة المباشرة غير الإستنتاجيّة، تشبه المعرفة الحسية بمعنى لا تتمخّض عن استدلال أو استنباط، وهي معرفةٌ بالله أو بشيءٍ مفارقٍ ومتعالٍ أو حالةٍ مُطلقة.

الثاني: نوع من الظواهر النفسيّة والمعنويّة تتجلّى للإنسان عبر تَأمُّلاته في ذاته. ويَعتبرُها المؤمنون والمتديّنون حصيلة المعرفة والميل الذاتي الفطري للإنسان نحو الله.

الثالث: مشاهدة يدُ الله وتأثيره المباشر دون وسائط في الحوادث الخارقة والمعاجز. مثلا من يلاحظ اختفاء غُدّة سرطانيّة بشكل مفاجيء من جسم ابنه المريض، فكأنّه يشاهد تَدخّل الله في شفاء ابنه بعدما طلب إليه ذلك في الدُّعاء.

هذه الصنوف أو الأنواع الثلاثة تُسمّى "تجربة" لأنّ فيها جميعا معرفة مباشرة ومشاهدة. وكل ما في الأمر أنّ هذه المعرفة تكون تارة معرفة بالله ذاته (النوع الأول)، وتارة بالظواهر النفسيّة والروحانيّة (النوع الثاني)، وتارة ثالثة بالتأثير المباشر لله في بعض الحوادث (النوع الثالث).

أمّا صفة "الدينية" المُلحقة بهذه التجارب فمَردّها – حسب الإدّعاء – الى كونها تشهد بالصّحة لبعض القضايا الواردة في النصوص المقدسة للأديان المختلفة.

ثانيا: ماهي العلاقة بين "التجربة الدينية" و"التجربة العرفانية"؟

ما من شك أن النوع الثاني والثالث من التجارب الدينيّة ليست من سنخ "التجربة العرفانية"، بمعنى أنّ أحدا لم يسمِّ هذين النوعين من "التجربة الدينية" تجربةً عرفانيّة. وبخصوص علاقة النوع الأول من التجربة الدينية بالتجربة العرفانية فقد قيل الكثير وكُتب الكثير، وبَرزت الى السطح اختلافات عديدة في وجهات النظر. وبدون أن نَسرُد المعاني المختلفة لمصطلح "التجربة العرفانية" يمكننا القول: إنّ أصحاب بعض التجارب يشعرون أنّهم جرّبوا الله الواحد الذي تَطرحُه معظم الأديان والمذاهب وأنّ ذلك الإله كان شيئا غير ذواتهم، وفي تجارب أخرى يَشعرُ صاحبُ التجربة أنّه جَرّب وحدة كلّ الأشياء وغياب أيّ نوع من التمايز بين الأشياء، حتى بينه وبين الله. الجميع سمّى القسم الثاني – أي تجربة وحدة الأشياء – تجربة عرفانيّة، أمّا القسم الأول – أي تجربة الشيء الواحد (الله) - فيُسمّيها البعض تجربة دينيّة والبعض الآخر تجربة عرفانيّة.

ثالثا: التجربة النبويّة والتجربة العرفانية.

الذين يستخدمون مُصطلح "التجربة النبويّة" يقصدون بذلك "التجربة الدينيّة" لنبيّ الإسلام، ولكن أيّ نوع من التجارب الدينية الثلاثة كانت لنبيّ الإسلام؟

العُرفاء يّسمّون تجاربهم بـ "الكَشْف"، ولذلك يُمكننا أن نقول "الكشف العرفاني" بدل "التجربة العرفانية". ولو رفعنا عبارة "التجربة النبويّة" ووضعنا بدلها "الكشف النبويّ" فلا نجد تفاوتا بينهما، وبذلك فإنّ "الكشف" الذي يَرِد في كلمات عُرفائنا يُطلق على الوحي أيضا "الكشف التامّ المُحمّدي"، ومن خلال هذا الكشف يَتعرّف النبيُّ على حقائق وأسرار عالَم الغيب. غاية الأمر أن كشفه يمثّل الكشف التام، بمعنى أنه خالصٌ وغير ملوّث حيث يكشف للنبي أسرار الواقع من موقع الوضوح في الرؤية. وربّما يَحصل مثل هذا الكشف للآخرين، غاية الأمر أنّ كشفهم ناقص وغير تامّ وضبابيّ.

تكون "التجربة الدينية" للأنبياء على درجة عالية جدًّا من اليقين والوضوح والقوّة بحيث أنهم يتحرّكون في خط الطاعة والمسؤولية ببركة هذه التجربة التي تمنحهم القوة والعزم للقيام بالأعمال العظيمة في تاريخ البشرية. إنّ الفرق بين الأنبياء وبين غيرهم من أصحاب التجارب الدينيّة هو أنّ الأنبياء لا يبقون أسرى تجربتهم الشخصيّة ولا يشغلهم التنعّم بها عن أداء دورهم الإنساني، بل إنّهم بسبب حلول هذه التجربة في عمق ذواتهم يشعرون بوظيفة جديدة ويتبدّل النبي عندها الى انسان جديد يسعى لبناء عالم جديد وإنسان جديد، وينقل إقبال اللاهوري في كتاب "إحياء الفكر الديني في الإسلام" عن عبدالقدوس الجانجهي (من المتصوفة الهنود) في بيانه للفارق بين تجربة المتصوفة وبين تجربة النبوة قوله: "إنّ النبيّ صَعد إلى المعراج ورجع، ولو كنتُ مكانه لما رجعت".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* للمزيد راجع كتاب "بسط التجربة النبوية" لعبدالكريم سروش وكتاب "العقلانية والمعنوية" لمصطفى ملكيان.



هناك تعليقان (٢):

  1. قرأت كتاب بسط التجربة النبوية لسروش قبل عام ونصف من الان ,كتاب عميق جدا وقراءة واحدة له لا أظنها كافية

    ردحذف
    الردود
    1. نعم أتفق معكِ. هو كتاب عميق ويحتاج الى أكثر من قراءة لإستيعابه بشكل كامل وسليم.

      حذف