العلمانية، على خط الخلاف بين البَرّانية والجُوانية في الإسلام
علي داود اللواتي
تقوم العلمانية بمختلف تعاريفها على وضع حد
معين لدور الدين في حياة الإنسان وخاصة حياته الحقوقية، ففي احدى تعاريفها يقولون:
"نظام معين في الأخلاق وخاصة في الحقوق الإجتماعية يقوم على أساس مفروضات
مسبقة تقرر أن المعايير والسلوكيات ينبغي تعيينها من خلال النظر الى هذه الحياة في
هذه الدنيا والعمل على توفير الرفاه الإجتماعي، وفي هذا الباب لا ينبغي اللجوء الى
تعاليم الدين". وفي الحقيقة ينبغي التمييز بين الدين والشريعة في هذا الصدد،
فالعلمانية لا تريد وضع حد للدين اذ هي تحافظ على الدين، بل هي تضع الحد للشريعة
المتمثلة في الفقه وأصول الفقه.
الجدير بالملاحظة أن التعريف السابق يجعل
العلمانية تتناسب مع مصطلح "الدنيوية"، وهي بالتالي لا ينحصر تطبيقها في
حياة الإنسان السياسية، بل تتعدى ذلك لتنطبق في حياته الإجتماعية وطريقة تعامله مع
الآخرين.
تُذكرنا العلمانية هنا حينما تضع حدا للشريعة
بالصراع القديم-الجديد بين البَرّانية والجُوّانية في الفكر الإسلامي. البرانية
هنا هو ذلك التيار الإسلامي الذي يركز على الظاهر أكثر من الباطن، وعلى الإسلام
أكثر من الإيمان، وعلى الجوارح أكثر من العقل والقلب، أي ذلك الإتجاه الذي يهتم
بالعلوم النقلية أكثر من العقلية والنفسية، فيكون الفقه والحديث والتفسيرعنده مقدم
على الحكمة ومعرفة النفس. والجوانية هو ذلك التيار الإسلامي المعاكس للسابق، يهتم
بالإيمان والعرفان والحكمة أكثر من الفقه والحديث والتفسير.
لعل الكثيرون لا يعلمون بوجود مثل هذا الخلاف
بين المسلمين منذ القدم، فتجدهم يحذرون ويتخوفون من العلمانية التي لا تفعل أكثر
من أنها تضع حدا للشريعة في المجالات الحقوقية خاصة - سواء وضعت هذا الحد لعدم
قناعتها بقدرة الشريعة في هذه المجالات أو اعتقادها بكونه واقع لابد منه - وهو عمل
مشابه ان لم يكن هو نفسه للذي كان يدعو اليه أنصار الجوانية في الإسلام، والذين
لهم مكانة مرموقة لحد الآن.
يعترض الغزالي مثلا على تغير معنى الفقه في
زمانه، فبينما كان المعنى الحقيقي للفظ الفقه هو "الإحاطة بالحقيقة"،
فقد حدث في زمانه أن "خصصوه بمعرفة الفروع الغريبة في الفتاوى والوقوف على
دقائق عللها واستكثار الكلام فيها وحفظ المقالات المتعلقة بها".
في الجانب الشيعي يكتب الملا صدرا: "إن
الناس في هذا العصر لا يعرفون شيئا عن علم التوحيد أو العلم الإلهي، وفي حياتي
كلها لم ألتق شخصا عنده هذا العلم. وبالنسبة لمعرفة النفس، فإن العلماء مجردون
منها تماما، فضلا عن العوام. وأكثرهم لا يؤمن إلا بأشياء من المحسوسات". إن
العلم الحقيقي عند الملا صدرا هو ذاك المكتسب عبر المكاشفات، وليس ذلك المتعلق
بالمعاملات او بفروع المعرفة الاخرى، فالمعرفة الحقيقية التي كانت في حوزة الرسول
وصحابته لم تكن الفقه أو الكلام أو الفلك او الفلسفة. المعرفة الحقيقية – معرفة النفس
والله – مشتقة من التفكر في بطون القرآن والحديث، وليس من الدراسة الشكلية المفصلة
للظواهر.
بعد إيضاح معنى الإيمان والتفريق الواجب إقامته
بينه وبين الإسلام، وبعد أن برهن على أن العلم المشار إليه في القرآن هو معرفة
النفس التي تقود الى علم التوحيد، يلتفت صدرا الى أنصار البرانية: "إن بعضا من
الذين يبدو عليهم العلم لكنهم في الحقيقة أشرار وفاسدون، وبعضا من المتكلمين
الخالين من المنطق السليم والخارجين عن دائرة الإستقامة والنجاة، أولئك الذين
يتبعون المتشرعة غير أنهم لا يعرفون شيئا عن قانون العبودية لله، والذين
ضلوا عن طريق الإيمان بالمبدأ والمعاد، قد ربطوا حبل التقليد الأعمى حول أعناقهم
وجعلوا ذم الدراويش شعارا لهم".
كما أشرت فإن الخلاف بين الجوانية والبرانية
لم يكن في بطلان الفقه أو عدم بطلانه، فالغزالي والملا صدرا مثلا لم يكونوا ضد
الفقه أو الفقهاء بالجملة بل كانوا ضد المبالغات الفقهية وضد تركيز ماهو فرض كفاية
وتقديمه لجمهور المسلمين على أنه هو العلم المقصود في القرآن، وكانوا يعتمدون في
ذلك على أدلة دينية وواقعية.
العلمانية لا تقف بعيدا عن مثل هذا الخلاف في
الحقيقة، فهي عندما تضع حدا لدور الشريعة في حياة الإنسان تعتمد الواقع سواء كان الواقع
الذي نعيشه والمتمثل في تعدد وجهات النظر والطوائف أو الواقع المتمثل في فشل
الحركات الإسلامية نظريا وعمليا في الحياة السياسية-الإجتماعية. والعلمانية عندما
تضع حدا لدور الشريعة (أو الفقه) في حياة الناس فإنها ليس بالضرورة تريد أن تلغيه
(كما لم يرد أنصار الجوانية ان يلغوا دور الفقه بالتمام والكمال)، وإنما هي تقف ضد
الفقه الذي يتعامل مع الحياة الأجتماعية والسياسية كما يتعامل مع العبادات، حيث
يتدخل في كل صغيرة وكبيرة، وبالتالي يلغي وجود الإنسان ويخضع واقعه للنص، وإن ادعى
عكس ذلك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق