الخميس، ٧ يناير ٢٠١٦

قراءة الفصل الثالث من كتاب أوراق الوعي للكاتب محمد العجمي في سياق مدرسة العرفان الجديد


قراءة الفصل الثالث (الوعي الديني) في سياق مدرسة العرفان الجديد
 
الملاحظ لقاريء هذا الفصل بأن محور الحديث فيه هو مفهوم "التجربة الدينية" وإن كان المؤلف قد وضعه فقط كعنوان فرعي فيه، فالمؤلف يبدأ بتعريف غير مباشر لهذا المفهوم ومن ثم يتناول مواضيع مختلفة كالعمق الديني والمذاهب الإسلامية وسلطة المجتمع من خلال هذا المفهوم.

ماهو المقصود من "التجربة الدينية"؟

ورد مفهوم "التجربة الدينية" بكثرة في كتابات ما تسمى ب"مدرسة العرفان الجديد" في إيران، والتي من أبرز رموزها المعاصرين: الدكتور عبدالكريم سروس ومحمد مجتهد شبستري ومصطفى ملكيان، والذين تُرجمت الكثير من أعمالهم إلى اللغة العربية عن طريق الباحث العراقي المثير للجدل أحمد القبانجي.
لا يختلف المقصود من "التجربة الدينية" عن ذاك المقصود من "التجربة العلمية" كثيرا، فكما – في التجربة العلمية – توجد لدى العالِم مجموعة من التساؤلات المتعلقة بالطبيعة مثلا يدخل بها إلى المختبر العلمي الذي يتعامل فيه مع مجموعة من الأدوات والمعدات، وفي النهاية يصل إلى نتيجة أو مجموعة من النتائج قد تتفق أو تختلف مع نظرياته الإبتدائية، وتكون هذه النتائج مفتوحة للتغيير والتطوير عن طريق مزيد من نفس العمليات وربما من علماء آخرين، هكذا تماما يحصل في التجربة الدينية. ففي التجربة الدينية توجد لدى الإنسان – كل إنسان – مجموعة من الأسئلة المتعلقة بالحياة والأخلاق والنفس والطبيعة وغيرها، تلك التي نسميها عادة بالأسئلة الوجودية الكبرى. يدخل الإنسان بهذه الأسئلة إلى صميم الواقع المتمثل في الحياة اليومية الفردية والأسرية والمهنية وكذلك القراءة والكتابة والنقاشات والجدالات، ويخرج بمجموعة من الأجوبة. هذه الأجوبة تكون أيضا مفتوحة قابلة للتغير والتطور، لماذا؟ لأن الإنسان طالما هو يزال يحتك بالواقع المتغير بأحداثه الجديدة والمتغيرة فإن أجوبته ستتحدث وستتغير.

يقول المؤلف في ص 125: "إن التجربة الدينية التي نقصدها ليست هي التدين الذي يخوض فيه البعض فيتدثر بدثار المظاهر المميزة لثقافة دينية معينة، ولا الممارسات التي يحرص الشخص إلى إتيانها على سبيل العادة التي إكتسبها من وسطه الإجتماعي، وإنما ذلك الإنشغال بالأسئلة الوجودية الكبرى التي ستكون أجوبتها موقفا تجاه الحياة والله والإنسان والتاريخ والطبيعة. إن هكذا تجربة ستكون بالضروة متغيرة ومتحركة حسب ما يتوصل إليه الإنسان من مشاهدات ووقائع وما يلاحظه من نماذج وأنماط في حركة الوجود، والهدف في هذه التجربة الدينية ليس الوصول إلى مطلقات وثوابت إذ ان ما يبحث عنه الإنسان هو الجمال والكمال الإلهي، والعائد من كل ذلك هو اللذة الروحية في لحظات معانقة هذا الجمال".
الجملة الأخيرة في هذا الإقتباس تشير إلى ميزة مهمة في تعريف مفهوم "التجربة الدينية" تفصله عن "التجربة العلمية" او غيرها من التجارب البشرية، وهي أن أساسها روحي أو معنوي، وفي الحقيقة هناك دمج عجيب بين العقلانية والمعنوية في كتابات مدرسة العرفان الجديد، وكذلك هذا الكتاب، ولعله أحد أهداف هذه المدرسة، ولذلك تجد أن أحد كبار رموزها وهو "مصطفى ملكيان" لديه كتاب مستقل بهذا العنوان "العقلانية والمعنوية، مقاربات في فلسفة الدين" وهو مشروعه الخاص الذي اشتغل عليه لسنوات.

الميزة الأخرى المهمة جدا لـ"التجربة الدينية" هي فردنتها، بمعنى أنها فردية خاصة وشخصية، وبسهولة تختلف من شخص إلى آخر، على عكس "التجربة العلمية" التي يمكن أن تُجرى مع مجموعة أو يشترك مجموعة من العلماء فيها، وهي بهذا أقرب للفلسفة - بمعنى الإستطلاع أو الإستكشاف أو السياحة الفكرية - من العلم. يقول المؤلف في ص 129: "فردنة التجربة الدينية هو ما يجب أن يتعزز لدى الإنسان وهو يشق طريقه بحثا عن لذة الإتصال بالله، أي بأن يعيش الإنسان ذاته وهو يتفاعل مع الواقع، فلا يلغي ذاته ويذوب في إرادة الجماعة.. وهنا على الفرد أن يتحقق من أن أحدا مهما بلغت نجاحاته لا يستطيع أن يصادر حقه في أن تكون له تجربته الدينية الخاصة".
ماهو الجديد في مفهوم "التجربة الدينية"؟

لعل سائل يسأل بأنه ماهو الجديد في كل هذه العملية والتفلسف؟ فمن المعروف أن الدين الإسلامي مثلا باب الإجتهاد في أحكامه وفروعه مفتوح حسب مقتضيات الزمان والمكان، وهذه ميزة غير موجودة في بقية الأديان. هذه السؤال – في الحقيقة – مهم جدا، ويجب التركيز عليه والتنبه له، ذلك لأن أغلب كتابات الفكر الإسلامي، سواء القديم والحديث منها، ترتكز على مفهوم "الثابت والمتغير" فلا تقدم غير القديم ولكن بحلة جديدة وبتبرير جديد.
إن النظام المفتوح والمتحرك للتجربة الدينية التي يعنيها المؤلف لا يقتصر على الجوانب العملية أو الفقهية فحسب، بل يمتد إلى صلب النظام العقدي أيضا. فالفكرة الأساسية في هذه العملية – التجربة الدينية – هي أن الإنسان يحتك بواقعه المعاصر بجميع مستوياته وجوانبه المعرفية، ويربط بينها، ويؤثر ويتأثر بها، ومن بداهة القول أن النظام العقدي لأي دين لا يكون منفصلا عن مجموعة من المعارف والعلوم كعلم الطبيعة والنفس والإجتماع، والتي هي علوم ومعارف متغيرة ومتحركة، وبالتالي فإن تأثيرها على النظام العقدي وارد جدا. يقول سروش في كتابه "القبض والبسط في الشريعة" ص 83 مؤكدا هذه النقطة: "إن عناصر المعرفة البشرية المختلفة في تفاعل مستمر، وبينها إرتباط وثيق. فإذا ما ظهرت في العلم نقطة مهمة، فإنها تؤثر في علم المعرفة وفي الفلسفة، كما ان تطور الفهم الفلسفي، يبدل فهم الإنسان والكون، ويهبهما وجها آخر، ومن ثَم تأخذ المعرفة الدينية معنى جديدا".
طيب، هل هذا يعني عدم وجود أية ثوابت في هذه العملية؟! يعالج المؤلف جواب هذا السؤال بطريقتين:  الأولى أن الفرد كلما تقدم في تجربته الواقعية وتمرس عليها ستتناقص الثوابت لديه طبيعيا، وذلك بفضل مقاربته للواقع الذي لا يوجد فيه ثابت سوى أنه متغير. أما الثاني فهو عن طريق تدريب وتعليم وتهيئة الأفراد الذي يقعون في قاعدة الهرم الإجتماعي لتمكنوا من الترقي إلى مستويات أعلى التي هي مستويات أكثر وعيا ومسؤولية.

مجموعة من المواضيع من زاوية مفهوم "التجربة الدينية"
النبوة: هي تجربة دينية ولكنها على درجة عالية من اليقين والوضوح والقوة كما يعبر عن ذلك سروش في كتابه"بسط التجربة النبوية" ص 11. ويقول أيضا: "إن الفرق بين الأنبياء وغيرهم من أصحاب التجارب الدينية هو ان الأنبياء لا يبقون أسرى تجربتهم الشخصية ولا يشغلهم التنعم بها عن اداء دورهم الإنساني، بل إنهم بسبب حلول هذه التجربة في عمق ذوتهم يشعرون بوظيفة جديدة ويتبدل النبي عندها إلى إنسان جديد يسعى لبناء عالم جديد.. وينقل إقبال اللاهوري في كتاب "إحياء الفكر الديني في الإسلام" عن عبدالقدوس الجانجهي (من المتصوفة الهنود) في بيانه للفارق بين تجربة المتصوفة وبين تجربة النبوة: "إن النبي صعد إلى المعراج ورجع، ولو كنتُ مكانه لما رجعت". أما المؤلف فيوضح الفرق بقوله في ص 130: "قد تتخذ التجربة الدينية اتجاها يهبط من أعلى إلى أسفل، فتبدأ من المعرفة ثم الأخلاق ثم التشريع، وقد تتخذ إتجاها يصعد من أسفل إلى أعلى حيث تبدأ من التشريع ثم الأخلاق ثم المعرفة. تجربة الأنبياء والعارفين هي من النوع الأول، وغالبية أتباع الأديان هم من النوع الثاني".

العبارة الأخيرة للمؤلف توضح محورية تجربة النبي بالنسبة لتجربة أتباعه، فهو بتعليمه لهم ينقل لهم في الحقيقة خلاصة تجربته ليسيروا عليها ويحققوا الغاية التي حققها، وبهذا يتضح تعريف جديد للمسلم وهو أنه ذلك الشخص الذي يتبع تجربة النبي محمد في الوصول إلى الكمال والحقيقة.
الإلحاد: هو تجربة دينية أيضا، ولكن كما يقول المؤلف في ص 128 "هو اليأس من الإصلاح واليأس من نهاية الشر واليأس من عموم الحب والسلام والخير بين الناس، وهو ذلك الشعور بأن العبثية التي تمزق سعادة الإنسان.. هي السمة البارزة في الوجود". من أين جاء هذا اليأس؟ هذا اليأس – إذا ما رجعنا إلى تعريف التجربة الدينية – جاء كنتيجة للإحتكاك بالواقع. هذا التعريف الجديد و"الخفيف" لظاهرة الإلحاد تجعل من المؤلف يقول في ص 129: "الإلحاد ليس شيطانا، ولكنه إيمان ينتحر على مضض، وما يجعله شيطانا سوادة القلب، حيث يقع في البؤس الذي يفر منه". هذا الكلام يعني أن المشكلة ليست في الإلحاد بل في "سوادة القلب" التي قد تنتج عنه، وهذا عين ما يقوله مصطفى مكليان في إحدى الأسئلة التي وجهت إليه في كتاب "العقلانية والمعنوية" ص 308، يقول: "إن دنيا اليوم تقتضي أن لا نتخندق في مواجهة المحدين (أي الأفراد المنكرين للإله المتشخص)، بل يتعين على أنصار المعنوية الإصطفاف في مقابل العدميين، المنكرين لأي معنى للحياة. وعليه، يمكن أن يلتقي تحت مظلة المعنوية أناس مؤمنون بالله وآخرون لا يؤمنون به".

تغيير المذهب أو الدين: هو تطور التجربة الدينية الخاصة بالفرد، ونتيجة طبيعية لحركة الواقع المتغير الذي يحتك به نظريا وعمليا. بهذا التعريف فإن مسألة تغيير الدين او المذهب لا تشكل قلقا ولا تتطلب أية مؤامرة أو تبشير أو تهليل أو حزن أو فرح.
نقد مفهوم التجربة الدينية

أولا: مفهوم التجربة الدينية وكل ما يتعلق بها هو في أغلبه تحصيل حاصل لكل من يملك موهبة الذكاء والتأمل في هذا العصر، بمعنى أنه بنفسه ومن دون الحاجة لقراءة أي من هذه التنظيرات يستطيع مع إحتكاكه بالواقع أن يصل إلى أغلبها على مستوى الشعور على الأقل، وحينئذ تكون مثل هذه التنظيرات أو الكتابات مجرد رافد لفظي لتلك المشاعر والأفكار التي لديه. المطلوب إذن إذا ما كان الهدف هو تحقيق الوعي تجاه الدين هو الدخول في عمق التراث الديني الخاص، والنصوص المقدسة، وتحليلها، وتشريحها، وتفكيكها.
ثانيا: أقتبس هنا من المفكر اللبناني علي حرب في كتابه "هكذا أقرأ ما بعد التفكيك" ص 95 ولكن مع بعض التصرف حتى يناسب المقام. لا مراء أن هذه المحاولة جادة وجريئة ولكنها محدودة ومحدوديتها تنشأ عن كون صاحبها يقف في الأصل موقفا كلاميا، بالرغم من إنفتاحه على المعارف الفلسفية والعلمية. والمتكلم يفكر ضمن السياج العقائدي لعلم الكلام قليلا أو كثيرا .

ثالثا: مرة أخرى من كتاب "هكذا أقرأ ما بعد التفكيك" ص 107 عن علي حرب. يقول: "لم تعد المسألة الآن مسألة تمييز بين ثابت ومتغير أو بين أصالة وحداثة أو بين إسلام وغرب أو بين هذه الحضارة وتلك. هذه ثنائيات باتت خادعة لأن الخراب يهدد الجميع. فالسجالات بين العقل والوحي، أو بين العلم والدين، أو بين الأصولي والعلماني، أو بين الحداثي والتراثي، كما تنشغل بها العقول في العالم العربي بشكل خاص، تكاد تستنفذ غرضها وتفقد مصداقيتها على أرض الواقع الحي والمعاش، في ضوء الإخفاق الذي تسجله المشاريع الأيديولوجية المختلفة في تنظيم البشر وهندسة الإجتماع وإداره العالَم".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق