مقالات في الديمقراطية (3): الإسلام والديمقراطية: تواؤم أم قطيعة؟!
خليل عثمان
بي بي سي - دبي
مواضيع ذات صلة:
بات الكلام في الآونة الأخيرة عن العلاقة بين الإسلام والديمقراطية مادة خصبة للدراسات والمعالجات والمطارحات الفكرية التي تتناول إشكالية ضعف أسس الممارسة الديمقراطية في الحياة السياسية وأنظمة الحكم في المنطقة العربية والإسلامية. فثمة قدر كبير من الأسئلة والتساؤلات المطروحة حول ما إذا كان الإسلام كدين سماوي ينظم مختلف أنشطة الحياة يتناقض مع الديمقراطية كنظام وضعي ينظم الحياة السياسية وخيار معاصر للدولة والحكم. ولقد احتدم الجدل حول نقاط الافتراق أو الاشتراك بين الإسلام والديمقراطية بالتزامن مع تصاعد الحديث مؤخرا عن نشر الديمقراطية في المنطقة العربية.
نقاط افتراق:
ويلخص فالح عبد الجبار مدير "معهد الدراسات الاستراتيجية"، ومقره في لندن وبغداد، إشكاليات العلاقة بين الإسلام والديمقراطية في ثلاث "نقاط افتراق" تعود تاريخيا إلى بدايات دخول الديمقراطية إلى العالم الإسلامي. ويرى عبد الجبار أن هذه النقاط الثلاث جاءت "كردود فعل من المؤسسات الدينية والفقهاء"، وتجلت منذ دخول النظام الديمقراطي إلى المنطقة الإسلامية.
النقطة الأولى التي يتحدث عنها عبد الجبار هي: فكرة "أن التشريع لله وحده وبالتالي لا يجوز للبرلمان أن يشرع". ويوضح قائلا: "هذا مفهوم فقهي قديم ما يزال قائما وتتبناه الكثير من الحركات (الإسلامية)".
أما نقطة الافتراق الثانية، من وجهة نظر عبد الجبار، فتتمثل في: فكرة "أن الحاكمية لله وليس للشعب، يعني أن الشعب ليس مصدر السلطات، ولا يمكن أن يكون مصدر السلطات". ويقول إن هذا الموقف هو "موقف أبو الأعلى المودودي، وسيد قطب، وحتى موقف الفقه الشيعي في إيران، كالخميني وغيره من الاتجاهات".
وتشكل مسألة المواطنة نقطة الافتراق الثالثة بين الإسلام والديمقراطية بحسب عبد الجبار. ويوضح قائلا: "في النظام الديمقراطي كل مواطن مساو لأي مواطن آخر بصرف النظر عن الدين أو الجنس أو العرق أو اللغة، إلخ. ولكن حسب المنطوق الفقهي الإسلامي القديم فإن غير المسلمين هم أهل ذمة، وبالتالي لا يجوز مساواتهم بباقي المسلمين".
ويستدرك عبد الجبار قائلا: "ولكن هناك بعض الفقهاء الإسلاميين وبعض المدارس الإسلامية الآن تقبل بالمباديء الحديثة للمواطنة، والانتخاب، وحق البرلمان في أن يشرع. ولكن هذه الجماعات والفقهاء في داخل المؤسسة الدينية يشكلون لحد الآن أقلية".
وإلى جانب نقاط الافتراق النظرية، فإن عبد الجبار يرى أن مسألة الإسلام والديمقراطية تضرب جذورها في منابع شتى أبرزها ما نشأ عن تحولات تاريخية رافقت زحف الحداثة في المنطقة العربية الإسلامية. ويعتقد أن "المنبع الأول هو الاعتقاد بثبات كل القيم التي استخلصها الفقهاء السابقون. ما استخلصه ابن تيمية مثلا على الجبهة السنية، أو ما استخلصه الفقهاء الحليون كما يُسَمَّوْن في الفقه الشيعي من وجوب حكم الفقيه، إلخ، ولاية الفقيه".
ويردف قائلا: "هذا الاعتقاد بثبات هذه الأحكام هو مصدر أساسي (للإشكالية)". ويلاحظ أيضا انكباب طلبة المدارس الدينية "على قراءة الفقه وعدم الإطلاع على العلوم الحديثة، على الفلسفات الحديثة، على النظريات الحديثة". ويرى أنه نتيجة لذلك "يعيش رجل الدين في الماضي وينقطع عن كل هذا التطور الزمني".
والخوف يشكل بالنسبة لعبد الجبار منبعا تاريخيا آخر لإشكالية العلاقة بين الإسلام والديمقراطية. ويشرح بأن هذا الخوف هو "الخوف من التغيير الاجتماعي لأن الديمقراطية هي معلم من معالم المجتمع الحديث والمجتمع الحديث يلغي العزلة القديمة للطوائف والمحلات المغلقة والقبائل وغيرها. وتبدأ الحياة الجديدة بإطلاق حرية المرأة، وخروجها إلى العمل".
ويخلص إلى القول بأن هذا الوضع "يذكي مخاوف كثيرة عند الذكور المهيمنين على إنتاج الثقافة الدينية بالذات".
ولكن آية الله محسن آراكي، الأستاذ في الحوزة الدينية في مدينة قم المقدسة في إيران، يرفض منطق المقاربة التاريخية الذي يتبناه عبد الجبار والذي يرى تناقضا بين الفكر الإسلامي والديمقراطية. ويؤكد آراكي على أن الإسلام ينطوي على ديمقراطية تنسجم مع روحه الخاصة وأن الإسلام هو "في الأساس أطروحة متناسقة ومتكاملة". من هنا يرى آراكي أنه لا تناقض بين الإسلام والديمقراطية بالمعنى المطلق، لأن في الإسلام ديمقراطية لكن ديمقراطية تنسجم مع روح الإسلام وتنسجم مع قيمه الخاصة".
أصداء هذا الموقف الرافض لوجود ثنائية بين الإسلام والديمقراطية يرددها راشد الغنوشي، رئيس حركة النهضة الإسلامية التونسية، الذي يعتبر الديمقراطية آلية تضمن إدارة شؤون الأمة بناء على إرادة المجموعة بدلا من إرادة الفرد. ويرفض الغنوشي النظرة التي تعتبر "الديمقراطية على أنها فلسفة أو دين حتى تكون مقابلا للإسلام باعتباره فلسفة، باعتباره دينا". ويمضي إلى القول: "إن الديمقراطية هي جملة من الإجراءات إذا طُبِّقَت في جماعة تضمن لقراراتها وشؤونها العامة أن لا تُدَار فرديا وإنما عبر إرادة المجموعة، أي أن تُدَار شوريا". ويضيف أن هذه الإجراءات "تضمن لهذه الجماعة القدرة على محاسبة حكامها وعلى تغييرهم بطريقة سلمية".
ويخلص إلى التأكيد قائلا: "ولا أرى في هذا شيئا يتناقض مع الإسلام الذي دعا للشورى، والذي جرّم وشنّع الإستبداد ممثلا في شخص فرعون كحاكم مستبد". ويتابع: "فالإسلام حرب على الاستبداد، ودعوة للشورى، ودعوة للتعددية، ويمنع أن يتصرف في الشأن العام، في شأن جماعة، فرد، مهما أوتي هذا الفرد (من سلطات)". ويعتبر الغنوشي أن "الذين يقيمون تناقضا بين الإسلام والديمقراطية، يحمّلون الديمقراطية محاميل ليست منها، فيقيمون اقترانا حتميا بين الديمقراطية وبين العلمانية".
وفي رأي الغنوشي فإن تطبيق النظام الإسلامي القائم على الشريعة هو بمثابة عقد اجتماعي ذلك أن إمكانية التأسيس لهذا النظام تنعدم بدون موافقة أغلبية الناس في مجتمع ما. ويتساءل: "إذا ما طلبت أغلبية المجتمع نظاما قانونيا معينا، ما الذي يمنعهم من ذلك؟ فإذا الناس طلبوا نظاما غير الشريعة، مَن الذي يستطيع أن يفرض عليهم الشريعة؟ إذا كان المجتمع البريطاني لا يريد الشريعة، هل يمكن لأي مشروعية أن تفرض على المجتمع البريطاني الشريعة؟ أو المجتمع التونسي، أو أي مجتمع من المجتمعات؟".
وهذا التلازم بين الإرادة الشعبية وشكل الحكم أمر يؤكد عليه أيضا آية الله آراكي، الذي يعرب عن ثقته بأن المجتمع المسلم يقيم نظام حكم ينسجم مع منظومة قيمه إسلامية. ويقول آراكي: "الديمقراطية الإسلامية هي ديمقراطية ضمن القيم وضمن الحدود التي يؤمن بها المجتمع المسلم والتي لا تتنافى مع إرادة هذا المجتمع".
من هنا يخلص إلى القول: "إذن فهنالك ديمقراطية بمعنى أن هنالك نظاما يعتمد على إرادة الشعب، وأيضا هنالك إلتزام بمباديء الدين لأن هذا الشعب الذي يقيم نظام حكم على أساس من إرادته يؤمن بقيم معينة، هذه القيم تتمثل في النظام الإسلامي في التشريع، وتتمثل كذلك في النظام الإسلامي في طريقة الحكم".
إلا أن فالح عبد الجبار يرى أن إشكاليات العلاقة الملتبسة بين الإسلام والديمقراطية تكمن أيضا في نقاط افتراق بين الفكر الإسلامي ولائحة الحقوق المدنية التي يؤكد أنه لا مجال لقيام نظام ديمقراطي بدون الالتزام بها. يقول عبد الجبار: "بعيدا عن حكم المرتد بالذات كمثال، لائحة الحقوق المدنية واسعة جدا. هي لا تتعلق فقط بحرية الرأي وحرية المعتقد، وإنما تتعلق أيضا بالحريات الأخرى الإنسانية العميقة". ويردف قائلا إن "لائحة الحقوق المدنية تكاد تكون بإجماعها، بمجملها، مرفوضة من كل التيارات الإسلامية، وإن اعترفوا بها فهم يعترفون بأجزاء منها". ويعتبر أن "هذه واحدة من المشاكل الكبيرة. لأن الديمقراطية في العصر الحالي، في القرن الحادي والعشرين، خلافا لما كانت عليه في القرن التاسع عشر، ترتبط بلائحة الحقوق المدنية". إن الحقوق المدنية إذن، بما تنطوي عليه من حريات، تواجه الفقه الإسلامي، بما يختزنه من أحكام في شأن الردة والمرتدين، بتحد بارز.
إلا أن آية الله آراكي، يحمّل سوء الفهم لموضوع الردة مسؤولية الإشكالية المُثَارَة بين أحكام الردة في الفقه الإسلامي وبين حرية العقيدة. ويقول: "لا بد أن نفهم ما هو معنى المرتد. لو أننا فهمنا معنى المرتد وفسرنا معنى المرتد بأنه هو ذلك الذي يخرج على النظام، على النظام العام، ويريد أن يخل بالنظام العام، فهذا لا يتناقض مع الديمقراطية". ويشير إلى "أن هنالك ديمقراطيات كثيرة تؤمن بتنفيذ حكم الإعدام على الذين يريدون الإخلال بالنظام العام". ويضيف بأن "الإرهاب ليس إلا صورة من صور هذا الإخلال بالنظام العام، الإخلال بالقيم التي تقوم على أساسها حياة الإنسان". ويمضي إلى القول بأن "هنالك نظما ديمقراطية معاصرة تؤمن بأن الإرهاب لا بد أن يُوَاجَه بالقمع والاستئصال، ولا بد أن يُوَاجَه مواجهة قاطعة، صارمة. فهنالك إذن حدود". وفي المحصلة فإن "هذه الحدود"، من وجهة نظر آراكي "لا بد أن تُراعَى ضمن ضمان الأسس الديمقراطية في أي نظام".
ويرى آراكي أن الردة تتمثل في "قرار إنسان ما بأن يخرج على النظام العام الذي يحكم المجتمع، يعني لا يؤمن بأي قانون. هذا معنى الردة في حقيقته". ويعتبر "أن الردة التي تعني أن الإنسان يخرج على الإيمان بالله وعلى النظام الإسلامي الذي يحكم المجتمع، هي في واقعها خروج على النظام العام. والخروج على النظام العام يساوي ما يُعبّر عنه اليوم، الآن حاليا، بالإرهاب العملي، بالإرهاب الذي يريد أن يخل بنظام الحياة العامة".
ويخلص إلى القول: "ولذلك لا يُحكَم على من يدّعي ويزعم أنه لا يؤمن بالإسلام بالإرتداد، بمجرد أن يقول أنني لا أؤمن. وإنما عدم الإيمان إنما يكون إرتدادا فيما إذا تُرجِم عدم الإيمان هذا في حياة الإنسان بمعنى أنه كان ملتزما بهذه اللاإيمانية. الإلتزام بهذه اللاإيمانية يعني الخروج على كل النظام العام الذي يحكم المجتمع".
ضوابط الحرية:
ويقر راشد الغنوشي من حركة النهضة الإسلامية التونسية، بوجود ضوابط وقيود على الحرية في النظام الإسلامي، إلا أنه يؤكد أن هذه الضوابط تخضع لاعتبارات المصلحة العامة، شأنها في ذلك شأن القيود التي تفرضها الأنظمة الديمقراطية المعاصرة على الحريات العامة في المراحل التي تهدد أمن المجتمع والنظام العام. ويستشهد بدوره أيضا بواقع أن "الأنظمة الديمقراطية المعاصرة لها حدود أيضا". ويقول: "نحن نرى الآن عندما أصبح النظام العام يشعر بأن هناك تهديدا، بأن الحريات الموجودة أصبحت تمثل تهديدا، رأينا أن هناك ضغطا على هذه الحريات وتقليلا منها". ويضيف: "فليست الحرية إذن في النظام الديمقراطي أمرا مطلقا. وإنما الحرية تبقى قائمة تتسع بقدر مصلحة الجماعة أو نظامها العام. فإذا أصبحت الجماعة تشعر بأن الحرية تعود على أصل الحرية بالبطلان، نرى أنه هنا يحصل تضييق لنطاق الحرية". ويتابع قائلا: "فكل نظام إذن له ثوابته، له إطاره العام، الذي يتحرك فيه وحرياته لا تتناقض مع ذلك الإطار وإنما تحميه".
وبالتالي يخلص الغنوشي إلى القول بأن "النظام الإسلامي إذن له إطاره العام. فهناك حرية في إطار ثوابته وقيمه العامة". ويشدد على أنه "من المعلوم أن حرية الاعتقاد متوفرة في النظام الإسلامي، إذ لا إكراه في الدين. ولذلك الإسلام لا يفتش في قلوب الناس عن معتقداتهم. أمر المعتقدات متروك إلى الله يحاسب عليه. ولكن الدولة تحاسب الناس على أفعالهم". ويضيف الغنوشي أن: "الردة في التاريخ الإسلامي حادث في بداية الإسلام. كان هنالك تمرد مسلح على النظام العام، فرُدَّ عليه بنفس الأسلوب". ويعتبر أن "هذا الأمر يختلف عن ردة أشخاص تراجعوا عن معتقدهم الإسلامي. فهذا أمر لا ينطبق عليه بالضرورة حكم الردة".
ويشير عبد الجبار أيضا إلى مواقف فقهية على تماس مباشر بموضوع المساواة بين المواطنين. ويضرب على ذلك مثلا "مساواة المرأة بالرجل، أو عدم التمييز على أساس الجنس واللغة والدين". ويشير إلى أن هناك في أوساط الفقهاء "مَنْ يعترض على تعيين المرأة أو غير المسلم قاضيا أو وزيرا". ويرى أن هذه الأمور كلها "تَصَادُمٌ صارخ مع قيم لائحة الحقوق المدنية الحديثة".
من جهته، فإن آية الله آراكي يؤكد على المساواة بين جميع مواطني الدولة الإسلامية، إلا أنه يشير إلى وجود تفاوت في دائرة الحقوق الخاصة، وهو تفاوت رغم كونه مرتبطا باختلاف دور ووظيفة وموقع كل فرد في المجتمع، إلا أنه لا ينطوي على أي تمييز. ويوضح قائلا: "العامل له حقوقه المعينة. المعلم له حقوقه المعينة. الجامعي له حقوقه المعينة. الطفل له حقوقه المعينة. المرأة لها حقوقها المعينة. وكذلك المسلم له حقوقه المعينة. وغير المسلم أيضا له حقوقه المعينة التي تضمن له حقوقه الإنسانية في داخل النظام الإسلامي والمجتمع الإسلامي".
ويستشهد بوجود جماعات من غير المسلمين في المجتمعات الإسلامية على مر العصور. ويقول: "ومما يدل على صدق هذا الذي نقوله أن غير المسلمين الذين عاشوا ضمن المجتمع الإسلامي طوال القرون العديدة كانوا لا يشعرون أي ميزة تميزهم عن المسلمين وهم يعيشون داخل المجتمع الإسلامي. كما أن المسلمين لم يكونوا يشعرون بما يميزهم عن غير المسلمين في الحقوق العامة وفي الواجبات".
ولكن ماذا عن أحكام أهل الذمة في الفقه الإسلامي؟ نطرح السؤال على راشد الغنوشي، فيجيب: "في الدولة الإسلامية هنالك حقوق متساوية للمواطنين. فمعنى الذمة، أي إعطاء حق المواطنة لغير المسلم". ويضيف: "الدولة الإسلامية هي الدولة الوحيدة في العصور القديمة التي تحمّلت أو اتسعت للتعدد العقائدي". ويردف قائلا: "فلم يُعرَف في تاريخ الإسلام اضطهاد ديني أو مخطط لاستئصال أي فئة دينية أو عرقية، سواء كانت تنتمي لديانات سماوية أو حتى لديانات وثنية". ويوضح قائلا: "في أرض العراق، حيث عمرت أكبر دولة وأطول دولة في تاريخ الإسلام، الدولة العباسية، حتى الآن لا تزال هناك عقائد قديمة مثل الصابئة، لا يزال أهل هذه العقائد موجودين حتى الآن. ولو صدرت فتوى باستئصالهم لاستأصلتهم الدولة". ويؤكد بأن "الحروب في التاريخ الإسلامي لم تكن قط حروبا دينية. كانت حروبا على السلطة، حروبا سياسية. هذا خلافا للتاريخ الأوروبي".
ويخلص إلى القول: "إذن المجتمع الإسلامي اتسع ولا يزال حتى الآن متسعا لمختلف العقائد. حتى اليهود الذين اضطُهِدُوا في أوروبا لم ينعموا بالأمن والسلام وازدهار عقائدهم مثل ما نعموا بها في ظل الإسلام".
وفي غمرة هذا السجال الدائر، بين أخذ ورد، حول إشكاليات والتباسات العلاقة بين الإسلام والديمقراطية، لا يمكن للمرء إلا أن يلحظ توجس بعض الإسلاميين من الديمقراطية. ويعزو راشد الغنوشي هذا التوجس إلى جملة من الأسباب تتواشج فيها الريبة من الغرب والربط بين الديمقراطية والعلمانية. ويقول: "ربما لأن الديمقراطية بضاعة كأنها جاءت من الغرب والغرب جاء غازيا، مستعمرا، بينما علماء الإصلاح منذ القرن التاسع عشر سنوا هذا المبدأ، مبدأ الاقتباس من كل تجارب الأمم والحضارات، من كل نافع منها". ويوضح قائلا: "الديمقراطية ليست عقيدة كفرية وإنما هي جملة من الإجراءات تضمن أن يكون القرار الذي يخص الجماعة قرارا جماعيا وليس قرارا فرديا".
لهذا يرى الغنوشي أن الديمقراطية "تضمن للجماعة حق محاسبة الحاكم وتغيير الحاكم والسياسات". ويلفت الغنوشي إلى أن الذي عزز من توجسات الإسلاميين حيال الديمقراطية هو "أن العلمانيين العرب أصروا ولا يزالون يصرون على أخذ الديمقراطية مع العلمانية، أي أن يكون ثمن الأخذ بالديمقراطية التخلي عن الإسلام، أو إخضاع الإسلام لجراحات تذهب بأصله وجوهره". ويضيف: "ولكن نحن نقول إن الديمقراطية هي أفضل الإجراءات المناسبة لتطبيق الشورى الإسلامية. الشورى تظل مجرد مبدأ أو قيمة وشعار بدون أن تأتي إجراءات تضبط هذه الشورى ولا تجعلها خيارا لحاكم يستشير متى شاء، مَنْ شاء".
ولكن هل من سبيل إلى فض هذه الإشكالية بين الإسلام والديمقراطية أو حلها؟ فالح عبد الجبار يرى أن ذلك ممكن ضمن مسار تاريخي طويل. ويرى أن "عدم السماح بحرية النقاش في العالم العربي وفي العالم الإسلامي" يشكل إحدى "الكوارث" التي تعاني منها المنطقة. والسبب في ذلك هو أنه مع حظر حرية النقاش "تبقى كل جماعة منغلقة تسمع ما تقوله لنفسها ولا تستمع لغيرها".
من هنا يخلص عبد الجبار إلى التأكيد على أن "هذه مشاكل ممكن أن تُحل لو كانت مجتمعاتنا مفتوحة. بمعنى هناك حرية رأي وتداول معلومات ونقاش".
ويلفت إلى أن "بلدانا كثيرة مرت بما مررنا به ولكنها استطاعت أن تعالج هذا من خلال أدوات كثيرة بينها الحوار، الذي نفتقده". ويعرب عن اعتقاده بأن "الثقافة التي تتمثل في القيم والأفكار هي جزء من المشكلة ولكن الجانب الآخر هو النظام السياسي والنظام الإجتماعي". ويقول إن "النظام السياسي ... منغلق، مغلق، لا يتيح أي تجديد أو مساءلة أو مشاركة". ويتساءل: "فكيف نستطيع من خلال مثل هذه النظم السياسية المغلقة أن نجدد ثقافتنا؟"
ويؤكد عبد الجبار بأن إمكانيات التوفيق "بين القيم الإسلامية بتفسيرها التقليدي المحافظ، والقيم الحديثة أي الديمقراطية ولائحة الحقوق المدنية وغيرها" مرهونة بتحقق عدد من الشروط "أولها هو إيجاد نظام سياسي تداولي منفتح". ويقول: "سبق لنا في الماضي، يعني في القرن العشرين، أن كانت لنا، على رغم كل النواقص، أنظمة برلمانية، وكانت لنا انتخابات. كان هناك برلمان، وكان هناك دستور، وكانت هناك أحزاب، في العراق، في سورية، في لبنان، في مصر". ويضيف: "الأنظمة العسكرية قلبت كل هذا. إرتدت على كل هذا. ونحن نعيش ذيول ما ارتكبته هي من أخطاء وخطايا". ويرى بأن "الإصلاح التدريجي ممكن أن يفتح بابا لهذا التحول لكن هذا التحول سيستغرق حياة جيل أو جيلين".
شكرًا ونأمل المزيد
ردحذف